الغد-عزيزة علي
يسعى الباحث نور الدين بلكودري، في كتابه "المجتمع الروائي والتعدد الإيديولوجي"، إلى تقديم رؤية معمقة حول العلاقة بين الرواية والمجتمع، وتفاعل النص الروائي مع التحولات الاجتماعية والإيديولوجية.
من خلال هذا البحث، يتناول بلكودري مفهوم سوسيولوجيا النص الروائي، موضحًا كيف أن النص الروائي ليس مجرد سرد حكائي، بل هو مرآة تعكس التحولات المجتمعية وتفاعل الأفراد مع محيطهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
ويشير، في مقدمة كتابه الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، إلى أن أهمية هذا البحث تنبثق عن محورية الدراسة في السوسيولوجيا النقدية، لا سيما في سياق الرواية المغربية، حيث تسعى الدراسة إلى تقديم تحليل شامل للرواية المغربية من خلال المقاربة السوسيولوجية، في محاولة للإجابة عن تساؤلات عدة حول مدى تأثير التحولات الاجتماعية على اللغة الروائية، وكيف تعكس الرواية في بنيتها الاجتماعية والإيديولوجية تطور المجتمع المغربي عبر التاريخ.
ويبين أن أهمية هذا البحث تتجلى في اعتماده على المفاهيم النظرية الحديثة، مثل سوسيولوجيا النص عند بيير زيما، والاستفادة من أفكار المفكرين الغربيين في هذا المجال، مع التركيز على الخصوصية المغربية. هذا إلى جانب الانفتاح على مجالات معرفية مترابطة عدة، مثل الإيديولوجية والتاريخ والدراسات الثقافية، ما يتيح رؤية أوسع وأكثر تكاملًا للأبعاد الاجتماعية والإيديولوجية التي تتضمنها الرواية المغربية.
يقول بلكودري إن النص الروائي يخضع أثناء إنتاجه لشروط اجتماعية وتاريخية، لأنه يرتبط بالمجتمع ويعكس قضاياه في فترة زمنية معينة. كما أن البحث في الأبعاد السوسيولوجية للنص قد شهد تحولات من حيث المنهج وآليات التحليل، لافتا إلى أن الدارسين يتعاملون مع النص الروائي بطريقة سطحية، ويعتبرونه مجرد حصيلة تجارب حياتية مباشرة للكاتب، وكأن هذا الأخير يعكس الواقع إبداعًا بطريقة آلية وميكانيكية. وكان هذا التصور القائم على المطابقة بين النص الروائي والواقع يؤدي إلى تصفية النص ومبدعه، لأنه يقصي عنصر التخييل واللغة كأداة مخادعة تتضمن العناصر الاجتماعية والإيديولوجية.
ويشير المؤلف إلى أن المنهج الاجتماعي أخذ مسارًا مختلفًا مع البنيوية التكوينية، التي اعتبرت أن النص الروائي يحتوي على رؤية خاصة بالعالم يعبر عنها الكاتب. وهذه الرؤية هي رؤية جماعية تنتمي إلى الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الكاتب. ولإدراك هذه الرؤية، لا بد من الإلمام بمشروع الكاتب ودراسة جميع أعماله للوصول إلى هذه النتيجة. مشيرا إلى أن هذه الدراسة تقوم على إشكالية تتمثل في اعتبار البنية الداخلية للنص الروائي بمثابة مجتمع لغوي يتضمن مختلف الآثار الاجتماعية والإيديولوجية، وأن لغة الرواية تمتص كل التحولات والصراعات المجتمعية القائمة بين فئاته المتناقضة وأفراده الذين يسعون للدفاع عن مصالحهم ووجودهم.
يرى بلكودري أنه إذا كانت الرواية تمثل مجتمعًا لغويًا يتشكل من مجموعة من الشخصيات التي تحمل لهجتها ولغتها الخاصة، فإن هذه الأصوات التي تحضر في النص الروائي تعيش داخل مجتمع وتنتمي إلى فئة اجتماعية معينة لها مكانتها الثقافية والفكرية والسياسية التي تميزها عن غيرها. ومن هنا، وبما أن التحولات التي يشهدها المجتمع تنعكس على لغة الرواية، فإننا نتساءل عن مدى قدرة الرواية المغربية على التعبير عن التشكيل المجتمعي من خلال بنياتها اللسانية واللغوية الداخلية.
ويشير المؤلف إلى أن كل مجتمع يتشكل من فئات اجتماعية غير متجانسة وغير منسجمة اقتصاديًا وسياسيًا وفكريًا، فهل كشفت الرواية المغربية، من خلال معجمها وعناصرها السردية، عن الفئات المختلفة من حيث لهجتها وخطابها؟ وكيف لعبت اللغات الجماعية الخاصة دور الوسيط بين البنيات الداخلية للرواية المغربية والوضعية السوسيولوجية؟ مبينا أن اختيار رواية الروائي المغربي محمد برادة "بعيدًا عن الضوضاء قريبًا من السكات"، جاء لقياس مدى استجابة التخييل الروائي المغربي إجرائيًا للسوسيولوجيا النصية، والوقوف عند درجة التفاعل الحاصل بين المنهج الغربي وأصوله ومتنه المغربي الذي يمتلك شروطه الإنتاجية الخاصة.
ويقول بلكودري إنه اختار هذا الموضوع لجدته في النقد المغربي، ولرغبته في الإسهام في سوسيولوجيا النص الروائي المغربي، إيمانًا منه بأن الرواية المغربية قادرة على احتواء المناهج النقدية الغربية والتفاعل معها. وبناءً عليه، يتساءل: هل "بعيدًا عن الضوضاء قريبًا من السكات"، قدمت بعض خصائص الرواية المغربية وأبرزت الدور الذي تقوم به اللغة على مستوى التشكيل المجتمعي؟
ويبين المؤلف أن هذه الدراسة تقوم على استنطاق البنية الداخلية لرواية "بعيدًا عن الضوضاء، قريبًا من السكات" لمحمد برادة، وهو ما نعتبره محاولة من بين المحاولات القليلة التي سعت لتلمس الأبعاد الاجتماعية والإيديولوجية في الرواية المغربية، معتمدين اللغة كمنطلق للقبض على هذه الأبعاد السوسيولوجية.
ويضيف بلكودري أن تحقيق هدف هذه الدراسة يبدأ بحصر الدراسات الغربية والمغربية التي اعتمدت على سوسيولوجيا النص الروائي عند "بيير زيما"، كتصور لدراسة النص الروائي العربي بشكل عام والمغربي بشكل خاص. ومع ذلك، لم نجد دراسات شافية وكافية تفتح أمامنا الطريق لخوض هذه التجربة، باستثناء بعض الأعمال القليلة التي سنشير إليها لاحقًا، مع العلم أننا اعتمدنا على بعضها في بحثنا وراجعناها في مراحل متعددة من البحث، سواء في جانبه النظري أو التطبيقي.
ويشير المؤلف إلى أن من بين هذه الأعمال الدراسية: "النقد الروائي والإيديولوجية: من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النص الروائي" للحميد حمداني، "المنهج الاجتماعي وتحولاته" لعبد الوهاب شعلان، "انفتاح النص الروائي" لسعيد يقطين، "الخطاب الروائي العربي: دراسة سوسيولسانية" لعبد الرحمن غانمي، "سوسيولوجيا النص: تاريخ المنهج وإجراءاته"، للباحثة الجزائرية نعيمة بولكعيبات.
ويرى بلكودري أنه من أجل الإسهام في إغناء سوسيولوجيا النص الروائي العربي عمومًا، والمغربي خصوصًا، وضعنا مخططًا لبحثنا يقوم على استحضار التطور الذي عرفته الممارسة السوسيولوجية في النقد الغربي، بالإضافة إلى الوقوف عند مدى تفاعل النقد المغربي مع مستجدات سوسيولوجيا الرواية، بهدف ربط النتائج السابقة ببعضها بعضا.
ويقول المؤلف "إن الهدف من هذه الدراسة هو الدفاع عن أطروحتنا القائلة إن النص الروائي يحتوي على بنية لسانية ولغوية تحمل الآثار الاجتماعية والإيديولوجية. فداخل النص الروائي، نجد أنه يحيل إلى خارجه، بمعنى أن العالم الروائي كمجتمع لغوي يحتوي على كل التناقضات والصراعات الحاضرة في المجتمع".
ويشير بلكودري إلى أنه كان من الضروري بالنسبة له، من أجل هذه الدراسة، التسلح بالمعرفة السوسيولوجية الأدبية عمومًا والروائية خصوصًا. ورغم صعوبة الإحاطة بكل المصادر والمراجع، فإننا حاولنا التحكم في هذه العملية. لذا، اقتصرنا في سوسيولوجيا النص الروائي على أهم أعمال ميخائيل باختين وبيير زيما. وفيما يتعلق بسوسيولوجيا النقد الروائي المغربي، اخترنا عينة تمثل أبرز المحطات التي عرفتها الدراسة السوسيولوجية النقدية المغربية، مع حرصنا على اختيار ما حقق نتائج ملموسة في الساحة الأدبية والنقدية داخل المغرب.
ويوضح المؤلف أنه عند خوضه غمار تحليل الرواية، وجد نفسه منفتحًا على حقول معرفية أخرى قريبة من سوسيولوجيا النص الروائي، مثل الإيديولوجية والتاريخ والدراسات الثقافية. وهذا يعكس غنى الرواية التي تتناول التحولات والصراعات المجتمعية التي عرفها المغرب الحديث منذ سنة 1931 وحتى فترة اندلاع ثورات الربيع العربي، مع ما صاحب ذلك من اضطرابات سياسية واصطدامات قيمية بين أجيال عاشت فترة الاستعمار وتشبعت بقيم الغرب، وأخرى وطنية تؤمن بالتحرر والخصوصية الثقافية المغربية.
ويخلص بلكودري إلى أنه رغم أن سوسيولوجيا النص الروائي لم تكن سهلة، فقد وجد نفسه أحيانًا في مواجهة تحديات متعددة. لذلك، كان من الضروري التحلي بالجرأة العلمية لتحديد حدود بحثه، والتحكم في مداخل البحث ومخارجه، لتحقيق الغاية المنشودة، لأن سوسيولوجيا النص تفتح أمام أكثر من اتجاه، ويجب أن تحسن التدبير للوصول إلى الهدف.