الغد
التحليل الموضوعي يقوم على التفكيك والتركيب لفهم التفاصيل وبناء التصورات على أسس واقعية، ولا يفسد التحليل الموضوعي إلا الرغائبية والأمنيات التي تشوه النتائج وتصنع التضليل.
في قضية المواجهة الإسرائيلية الإيرانية الأخيرة، لا بد من وضع الأمنيات جانبا، وتفكيك مجمل المشهد. وحدود هذا المشهد واسعة تشمل منظومة العلاقات الدولية كلها، لا منطقة الشرق الأوسط وحسب، ولا محورها القضية الفلسطينية بإطار صراع "وجودي" ضيق.
فلنبدأ من فرضية زحزحة هائلة في مجمل العلاقات الدولية الذي أسس له متغيرات جوهرية حيوية أهمها ثلاث: ثورة تكنولوجيا المعلومات، ومصادر الطاقة الجديدة، ومفهوم سلاسل التزويد. وهذه المتغيرات صنعت اهتزازا في الاقتصاد العالمي، والاقتصاد و"الإنتاج" هو محرك أساسي في كل التاريخ البشري.
هذا التغير الشبيه بالزحزحة القارية للعلاقات الدولية، مثله مثل تلك الزحزحة له تداعياته الكارثية التي تكون على صيغة حروب وأزمات وصراعات، فهناك حالة من التموضع جديدة لقوى ستزيح أخرى، وهذا تهديد لمصالح "اقتصادية" تجذرت، ووضعت لها مسميات سياسية، فالمقاومة مثلا، هدف نبيل لكنها تصبح أرضا خصبة لتنبت فيها مصالح اقتصادية ضخمة تترسخ مع الوقت لتصبح شبكة ضخمة ومعقدة من الأموال والبضائع والتجارة.
الشرق الأوسط، أو شرق ذلك المتوسط هو فعليا قلب العالم من وجهة نظر اقتصادية. وأهميته لا تحتاج إثباتا أكثر من أن الاقتصاد العالمي تخلخل كل مرة كان فيها تهديد لحركة النقل والبضائع في عالم أصبحت فيه الصفقات مبنية على ثورة تكنولوجيا المعلومات وبكبسة زر على جهاز بحجم راحة اليد.
هذا الشرق المتوسط في العالم، بناء على تلك الفرضية، يجب أن يكون خاليا من الأزمات حتى لا تتكرر أزمات سلاسل الإمداد والتزويد، وهو أيضا مصدر للطاقة البديلة الجديدة وجغرافيته محيطة به، وأهم مصادر الطاقة الجديدة هو الغاز، وطبيعة الغاز على عكس البترول، فهو لا ينتظر كثيرا في باطن الأرض.
كان هناك حديث عن طريق الهند، مقابل طريق الحرير. وكلاهما مشروعان دوليان ضروريان للعالم الجديد بكل مفرداته، ولا يمكن لأي منهما ان يكتمل دون المرور بهذا الشرق المتوسط للعالم.
إذن "تسوية" هذا الشرق متوسط ضرورة وأولوية في العالم القادم الذي ندخله الآن، وتلك التسوية تتطلب التخلص من كل ما يسبب الأزمات، بمعنى أدق من كل راديكالية متطرفة إما بالإزاحة أو بالدمج الموضوعي.
السؤال الأهم الآن:
إذا سلمنا بتلك الفرضية، فإن تسلسلها المنطقي يؤدي إلى أن التغيير قد حدث فعلا في إيران، بتولي الإصلاحيين السلطة فعليا اليوم، ونهاية الحرس الثوري. لكن بقي في المنطقة تطرف آخر يتولى السلطة والقوة ومنطق "الدولة" التي اختطفها ليظل يحظى بالرعاية الدولية. وهو اليمين الإسرائيلي المتوحش، فهل يتم تفكيكه في الأيام القادمة؟
ما يمكن توقعه – بناء على ذات الفرضية- أننا سنسمع في مقبل الأيام بعد انتهاء المواجهات، وتسوية إيران نهائيا ثم ترتيب العراق وإعادة تأهيل سورية، أصواتا في إسرائيل ومن حلفاء إسرائيل تتحدث عن تواطؤ نتنياهو ويمينه وأجهزته في خلق كل ظروف الحروب التي بدأت منذ السابع من أكتوبر، بما فيها التواطؤ لتنمية "حماس" وإضعاف السلطة الفلسطينية بمنهجية عميقة.
تلك الأصوات، ستعلو قريبا، وربما حينها تثبت صحة الفرضية كلها.