جعجعة بلا طحن!*د. أحمد يعقوب المجدوبة
الراي
بعض الأمثلة تَنقلُ لنا حِكَماً ثمينة آمنت بها الأجيال وتناقلتها كحقائق ومُسلّمات، من وحي التجربة العمليّة، لِما تحمِل من مضامين عميقة ومعانٍ دقيقة.
من هذه الأمثال ما أوردناه في عنوان هذه المقالة: جعجعة بلا طحن.
ما أجمل هذا القول وما أدقّ معناه.
يصفُ هذا المَثل ظاهرة مُسيطرة في مجتمعنا المعاصر، ومُستفحلة منذ مدة: ظاهرة الخطاب الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع، والكلام الّذي لا يُفضي إلى فِعل؛ والنوايا التي لا تُترجَم إلى عمل؛ والصوت العالي، والصخب...
والظاهرة هذه بمثابة وباء يرقى إلى مستوى الجائحة، مع تعاظم وسائل «التواصل» و"التعبير» والإفراط في استخدامها من قبل بعضهم.
يبدو أن كلمة «فن» في «فن الكتابة والتعبير» أُسقِطت من العبارة؛ بحيث تكون هنالك «كتابة»، ويكون هنالك «تعبير»، بلا ضوابط. ويبدو أنّ بعضهم نَسي أو تَناسى أنّ التعبير يرتبط بغاية ونتيجة وحصيلة وخُلاصة، ولا يكون لأجل التعبير فقط.
سياقات الجعجعة كثيرة في مجتمعنا، مثلما هي في غيره، أو ربما أكثر..
منها المؤتمرات التي تُعقد اليوم من باب العادة أو العُرف أو التّقليد أو الروتين أو البروتوكول؛ مما فرّغها من محتواها؛ وجعلها فرصة لاستعراض العضلات والبهرجة وطحْنِ الهواء، بدلاً من أن تكون فرصة لالتقاء الحُكماء والعلماء والخبراء والدارسين والعقول لاجتراح الحلول، والتمهيد للابتكار والاختراع، ودفع عجلة تقدّم المجتمع وازدهاره إلى الأمام.
وما ينطبقُ على المؤتمرات، ينسحبُ على أخواتها من مُلتقيات ونَدوات ووُرَش وخلوات وأعمال لجان وغيرها.
وهنالك سياقات أخرى، فهنالك استراتيجيات عامة على مستوى المجتمع، واستراتيجيات لكل مؤسسة، واستراتيجيات لكل وحدة أو دائرة في كل مؤسسة، وحتى استراتيجيات على مستوى الأقسام والشُّعَب. كلام كبير يقال فيها، ومعظمه منسوخ من هنا وهناك ومُكرّر؛ يُرفع على الموقع أو يُطبع في بروشور أو كُتيّب، وينتهي الأمر.
وينطبقُ الأمر على العديد من البيانات والتصريحات والأخبار والتقارير والأنشطة، لا بل وحتى الخطط والمشاريع والدراسات والبحوث ومذكرات التفاهم والاتفاقيات وغيرها.
وهنالك أمثلة كثيرة لا مجال للخوض فيها هنا.
وحتى لا نطيل نقول: الأصل أن يكون هنالك طحن بلا جعجعة، فالتكنولوجيا أتاحت لنا أدوات وآلات ناعمة صامتة تطحن بلا صوت. والمطلوب دوماً العمل والإنجاز بهدوء وفي الظل وبعيداً عن الأضواء والكاميرات ومنابر الخطاب.
لكن إن كان لا بد من جعجعة، وبالذّات إذا لم نتمكّن بعد من امتلاك الأدوات والآلات الصامتة، فلتكن جعجعة بِطحن. وهذا أمر مقبول، ونستطيع تَحمّل ضجيجه وصَخَبِه في سبيل الحصول على المحصول، على الناتج، كما كان يحدث عندما كنّا، في وقت ليس ببعيد، نطحن القمح أو الشّعير أو الذّرة، وكما نفعل الآن عندما نطحن القهوة.
أما الجعجعة بلا طحن، فآن الأوان للتّوقف كليّاً عن ممارستها، لأنّها ببساطة مَلهاة أو مَسلاة مُمِلّة ومُضَيِّعة للوقت والجهد والمال، ولأنّنا – كدول نامية – لا نملك تَرَفَ مُمارستها، وبالذات في سعينا لتحسين وضعنا ومنافسة الآخرين.
الأمور بخواتمها، كما نقول؛ والأصل أن ندع النتائج الملموسة والإنجازات المحسوسة والابتكارات والاختراعات والإبداعات تتحدث عن نفسها، وعنّا.