عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    03-Jan-2021

مدينة بكتابين مرجعيين عن التاريخ الاجتماعي للمملكة

 الراي

تعلّمت ُ من والدي الانضباط و التفاني في العمل وخدمة الناس ومحبتهم
 
ما زلت أذكر من زميلات المرحلة الابتدائية في السبتية
 
عايشتُ في المفرق أول وآخر امتحان وزاري للصف السادس
 
مقاهي الرينبو في جبل عمان تعيدني بالذاكرة لمقاهي رام الله العامرة
 
ما زال لدينا دَيْنٌ قديم مستحقٌ على العين السابق مي أبو السمن، وهو توثيق ذاكرة الوالد حمدي توفيق أبو السمن باعتبار هذه الذاكرة هي التاريخ الاجتماعي غير المكتوب للسلط في القرن العشرين والتاريخ الإداري لمختلف محافظات المملكة التي عمل فيها حاكما اداريا.
 
ويصبح سداد هذا الّديْن الوطني فضلا مضاعفا لو قّدر لنا أن نوثق على لسان أم عمر ما عاشته وانجزته في مختلف محطات عملها الوظيفي والتطوعي، وهو السِّفر المستحق لتوثيق الحياة الاجتماعية والانسانية الأردنية في النصف الثاني من القرن العشرين.
 
فقد عملت مي حمدي أبو السمن وتركت بصماتها في شتى المفاصل التنموية ابتداء من التعليم وصولا الى عضوية الأعيان. وما بينهما عضو مجلس أمناء جامعة الحسين وأمينة سر تجمع لجان المرأة الأردنية لعقدين ويزيد. وكذلك عضوة صندوق التنمية والتشغييل والمجلس الأعلى للشباب والمركز الوطني لحقوق الإنسان. و المجلس الاعلى للإعلام و اللجنة الوطنية لشؤون المرأة واللجنة الملكية لحقوق الإنسان.
 
وفي الذي تمتلكه أم عمر من دأب الريادة وقوة الحضور بالرأي الاجتماعي المستقل، فإننا من طرفنا لن نملّ انتظار إصدارين منها، أحدهما ليوثق ذاكرة الوالد في العمل الوطني، والآخر يستذكر ما فات المؤرخين في تسجيل التاريخ الاجتماعي للمملكة.
 
تَعْرفُ مي أبو السمن نفسها بوضوح وثيق يشيع الرضا عن النفس، حتى في فترات الجفاف الاجتماعي كالتي يعيشها الناس في زمن الجائحة.
 
أردنية سلطية ولدتُ فيها وهي في قلبي نبراسٌ كوطني من شماله حتى جنوبه. شامخة تمسح الجراح بألوان الإنسانية وتمد يدها بالكرم والشهامة.
 
وتضيف في تعريف نفسها، بالقول: توجتني المسؤولية للقيام بعدة أدوار: أم ومعلمة ومدربة.. مستلهمة الكرم والعطاء من تحت ظلال أشجار الكروم السلطية ورائحة ترابها الزكي. شاء الله أن أكون البنت البكر لعائلتي المكونة من خمسة أشقاء وثلاثة شقيقات. أمية، مهى، وبلقيس حيث تجمعنا لقاءات أسبوعية فيها من الحنين للماضي بقدر ما فيها من شوق لقهوة أمي الصباحية.
 
أشقائي توفيق، طاهر، ماهر، طارق وأصغرهم عامر، نلتقي دوما وأشتاق لتوفيق وطارق رحمهما الله.
 
والدي حمدي توفيق أبو السمن عصامي صنع نفسه بنفسه. تسلم عدة مهام منها في وزارة الداخلية ومنصب رئيس بلدية السلط.. تأثرتُ بمبادئه كأردني محب لوطنه. تعلمت منه الانضباط والتفاني في العمل ومحبة الناس وخدمتهم.
 
لي مع أبي قصص وحكايات ومواقف أفتخر بها وأعتز، كما قالت العجفاء بنت علقمة السعدي: «كل فتاة بأبيها معجبة».
 
هي الحقيقة التي لا تلغي أبدا دور أمي التي في نظري ونظر كل من عرفها أو تعرف عليها مثال نادر في عالم الأمهات، ونموذج للمرأة الأردنية بالقيم التي حملتها وعاداتها الحميدة، فكانت رمزاً لأمهات الوطن بتضحيتهن وإيثارهن للآخرين وتفانيهن في خدمة أبنائهن.
 
ولطفولتي حكاية محفوظة، بدأت منذ ولادتي في مدينة السلط ودراستي المرحلة الابتدائية في مدرسة السبتية. وما زالت ملامح زميلات صفي ومدرساتي واضحة في ذهني بعطائهن وتفانيهن في مهنة ولا أروع.. أذكر منهن: سليمة القماز، هيفاء البشير، ميسر العمد وانتصار الكيلاني وما زلن قناديل عطاء وتضحية ونموذج وفاء لمهنة لا يعلوا عليها.
 
تواصلت رحلتي مع والديَ بين مدن وقرى الأردن من شمالها لجنوبها وما زالت العقبة أولى محطات انتقالنا من السلط، ساطعة في ذهني ببحرها وقواربها ودفئها، توقظ صمتي بتفاصيل الطفولة كلما زرتها.
 
والدي كان فيها حاكما إداريا حيث انتقلنا إليها مرتين في طفولة مبكرة محى بعضها الزمن، وما زال بعضها في الخاطر.. مشهد القطار الذي نقلنا من عمان إلى مدينة معان ومن ثم إلى العقبة.
 
فيها سكنّا على تلة مشرفة على البحر أهرب مع شقيقي توفيق إلى البحر عبر درب ترابي لنشاهد القوارب وصيادي الأسماك.
 
فيها التقيت بأصدقاء من الجالية البريطانية بحكم وظيفة والدي (حاكم إداري).
 
تصادقنا مع الجنرال المسؤول وبدعوات عائلية منها في احدى المرات أصروا على حضورنا للتعرف على أبنائهم وكان طاهر ما زال في الشهور الأولى. وفي تلك الليلة كان يبكي بشكل متواصل فأحضرت زوجة الجنرال دباً بلون بني تصدر منه نغمات موسيقية جميلة وما أن سمعها شقيقي حتى غفا ونام طوال وقت الزيارة.
 
رافقت أصدقائي من الجالية البريطانية إلى البحر وكنا نركب القارب ونلعب الكرة. وكان أبي يستضيف كل منْ على البارجة البريطانية للعشاء.
 
في إحدى المرات تناول الجنرال قائد البارجة البريطانية زوج الملكة اليزابيث العشاء بدعوة من والدي في بيتنا فأبهرته المائدة التي تصدرها خروف محشي، فأصر على رؤية الوعاء الذي تم به الطبخ شاكرا والدتي، ودعا الوالد لزيارة بريطانيا.
 
شركة نفط العراق في المفرق
 
كانت محطة شركة نفط العراق قرب مدينة المفرق وقد أقامت سكناً لموظفيها الذين يأتون من خارج المدينة وكانت بيوتهم جميلة تتوزع فيها الحدائق حيث كنت أذهب لزيارة صديقاتي هناك.
 
و كانت صونيا الور من الصديقات التي كنت أمضي وإياهن فترة من أحلى الأوقات بين وسائل الترفيه المتاحة في حينه ما بين السينما والألعاب الرياضية وركوب الدراجات.
 
درست في مدينة المفرق المرحلة الابتدائية حتى الصف السادس وكان هناك امتحان وزاري في نهاية المرحلة الابتدائية وأذكر وأنا أقف مع زميلاتي في صف طويل لدخول قاعة الامتحان ويداي ترتجفان من الخوف حيث كان هذا أول وآخر امتحان وزاري للصف السادس.
 
في مدرسة المفرق الإعدادية أتممت صف الأول الاعدادي وكانت المعلمات يفدن من خارج المحافظة للتدريس منهن معلمة الاجتماعيات جيهان قاقيش.. كانت لطيفة وقريبة من الطالبات.
 
علاقتي مع زميلاتي في المدرسة كانت لا تتعدى حدود جدران المدرسة وكانت نهاد أبو الشعر وفريدة شداد من الزميلات المقربات حيث نلتقي أحيانا في قاعة سينما المفرق وهي التي كانت مصدر ترويح لأهلها.
 
ومن ذكرياتي في مدينة المفرق أن شقيقي توفيق كان يدرس مع زملاء له، محمد داودية سمير حباشنة ومحمد أبو زيد، في بيتنا ولمرات عديدة كنت أدرس معهم في الامتحانات حيث كنا في الصف الأول الاعدادي.
 
دراجة شقيقي توفيق
 
المفرق تركت في الذاكرة فترة لا تمحى فكانت شركة نفط العراق محطة صداقة حقيقية مع بنات المفرق. كانت عالما غير عالمي جمعتني بهن وهن الأحب إلى قلبي.
 
أذكر لـ توفيق دراجة هوائية كان يستخدمها للتسلية وقضاء حاجات البيت وفي المرات التي يرفض الذهاب لتلبية احتياجات البيت كنت أقوم بهذه المهمة بعد ان سمح لي والدي استخدام الدراجة لإحضار ما يلزم وأنا أرتجف رعباً عند قيادتها. كان الأمر سهلا فانطلقت مسرعة وأنا أشعر بقوتي وشجاعتي وبالسعادة لموافقة والدي ركوبها.
 
ومن المفرق نقل والدي إلى الشمال إلى بلدة دير أبي سعيد فحزنت ووالدي بسبب عدم وجود مدرسة للمرحلة الاعدادية للبنات إلا ان أبي سرعان ما اتخذ قرارا بشأن متابعة دراستي اما الانتقال إلى بيت خالي في مدينة السلط أو الدراسة في مدرسة الذكور مع طلاب الصف الثاني الإعدادي فغمرتني السعادة انه قدر قيمة وأهمية مواصلة دراستي. وبفضل الله كان الحظ بجانبي حيث نقلنا بعد شهر من اقامتنا في دير أبي سعيد إلى مدينة جرش.
 
مدرسة جرش ونائلة دلقموني
 
في مدينة جرش سكنا أحد بيوتها العريقة على شارع من أسفله قناة مياه وأشجار الجوز تعانق جدران البيت حتى الطابق الثاني.
 
مدرستي في جرش الإعدادية تقع في طابقين من الصف الأول حتى الثانوي. وفي أول يوم دراسي ذهبت بخجل وتردد لأتعرف من اليوم الأول على زميلة هي من صديقات العمر حيث بدأت بمشكلة من أول دخول الصف. كانت مشاغبة فبدأت الزميلات بتنظيف الصف وكنت أقف جانباً لا أدري ما أعمل فاقتربت مني الزميلة المشاغبة وبحدة سألتني عن عدم مشاركتي الزميلات بالتنظيف وقالت: هل هو عنجهية أم تكبر..؟ فأجبتها بأن هذا ليس من شأنها فاشتبكنا بالكلام ثم هدأت واعتذرت ومن ذلك الوقت حتى الآن ما زالت نائلة دلقموني قريبة مني وأختا غالية وعزيزة على قلبي، كما ?سوزان مرتضى وهداية حميد وهداية رستم أيضا.
 
أما مُدرّساتي فأذكر منهن زهرة شوجه، رسمية حداد، جهيدة محريز وكانت قد أتت من جنين علمتنا اللغة العربية في مدرسة جرش الإعدادية وما زالت في ذاكرتي باسلوبها الممتع وطريقتها بجذب انتباه الطالبات للحصة. أحببتها وما زلت. كما أحببت القراءة فكنت أتنافس والزميلات من تقرأ أكثر حيث تركت المنافسة هوى عميق للشعر والكتابة.
 
في مدرسة جرش بدأت مواهبي تظهر في المناسبات الوطنية والاجتماعية. وأذكر أنه في أحد أعياد الأم قمت بمشاركة بعض الزميلات منهن نائلة دلقموني وسوزان مرتضى بتمثيل مسرحية. » أين ساقي» اندمجتُ بالدور فأحسست بالأمهات يصفقن وهن يبكين لانفعالي إلى حد الألم القاتل وكان الدور لجندي أردني فقد ساقه في معركة الوغى.
 
كنت في مدرسة جرش ضمن فريق الريشة الطائرة وكانت معلمة الرياضة ياسمين حداد تصر على تكوين فريق مميز منافس لفرق المحافظة.
 
بقيت في جرش بين أحضان ربيعها الدافئ وآثارها العريقة حتى انتهاء المرحلة الإعدادية ومن ثم عدت إلى مدينة السلط لأبدأ المرحلة الثانوية.
 
السلط الثانوية
 
دخلت مدرسة السلط الثانوية متميزة بعدة مهارات اكتسبتها من المراحل الدراسية السابقة.
 
وكما ذكرت فقد كانت مدرسة جرش هي الحافز والدافع لأن أمارس هواية المطالعة من أدب وشعر مما منحني قوة وثقة أنني متميزة ومتفوقة على زميلاتي بمقدرة التعبير وخاصة في مواضيع الإنشاء.
 
أذكر في احدى المرات ان معلمة اللغة العربية نادرة الكتاوي طلبت أن نكتب موضوعاً وطنيا، وفي اليوم التالي قرأته بتمعن فسألتني هل أنت من كتبه فأكدت لها ذلك. وقد صادف أنها زارتنا في اليوم التالي فأشادت بموضوعي أمام أهلي وكان شقيقي توفيق يحب المناكفة فقال لها أنه كتبه لي فنظرت الي بغضب مبطن فضحك وقال لها فقط أحب أن أغيظها.
 
كانت المطالعة بالنسبة لي غذاء الروح والعقل فكنت أسافر مع كتب عباس محمود العقاد، نجيب محفوظ, مي زيادة, جبران خليل جبران, احسان عبد القدوس, نزار قباني, وأبو الطيب المتنبي في رحلات استكشاف لعالم مليء بالخير والشر والطيبة والظلم والرحمة والقسوة، وما زال الكتاب صديقي وأنيسي بجانب عشقي للزراعة. فأنا أتفقد حديقة المنزل في الصباح الباكر فأجد متعة تشدني بل وتشعرني أن جذوري في الأرض وأنا أزرع وأقطف الثمار.
 
قلت أنني في جرش كنت ضمن فريق الريشة الطائرة التي حملتها معي أيضا الى مدرسة السلط ضمن الفريق الذي شكلته ليلى النجار معلمة التربية الرياضية التي من الصعب منافستها مع معلمات الرياضة في مدارس أخرى. فهي الأبرز على مستوى المملكة.. حازمة عنيفة أثناء التدريب وفي المقابل صديقة لينة حنونة. قامت بتدريبنا لفترات ما بعد المدرسة لساعات حتى استطاع فريق مدرسة السلط الثانوية أن يفوز بمرحلة متقدمة بملاقاة فرق مدرسية في مدينة رام الله التي أقمنا بها ليلتين حيث لعبنا مع كافة الفرق الفائزة فحظي فريق مدرسة السلط الثانوية بعدة م?اليات وكأس المملكة.
 
في زيارتنا لـ رام الله تجولنا في شوارعها الممتدة بالأشجار الحرجية كالبلوط والزعرور والخروب والكينا. ورائحة الياسمين والفل، وأناقة بيوتها وآثارها التاريخية من حضارات العصور التي مرت عليها، منها الأيوبية والعثمانية، ومقام سيدنا إبراهيم الخليل، ومقاهيها التي تفوح منها رائحة القهوة، فأشتاق لها كلما زرت مقاهي الرينبو في جبل عمان لتعود بي الذاكرة لمقاهي رام الله العامرة بناسها ومرتاديها.
 
وبالعودة إلى مدرسة السلط الثانوية كانت مديرتنا فيها زينب بدران قدوتنا, تعلمت منها النظام والإخلاص والتفاني مع خيرة الخيرة من معلمات منهن سهى دبابنة, فيروز معشر, سميحة معاذ, رداح الخطيب, سلوى الحبش, خديجة الشريف, أحلام العزب ونوال الحمود.
 
تخرجت في ثانوية السلط من الفرع الأدبي، بالمرتبة الثانية على المحافظة، لأواصل رحلة العلم لأربع سنوات في الأدب العربي في الجامعة الأردنية منحتني أجمل هدايا العمر مع قامات علمية منهم محمود إبراهيم, سامي الدهان, ناصر الدين الأسد, هاشم ياغي, عبد الكريم الغرايبة, نهاد الموسى, عبد الكريم خليفة. وخلالها عرفت صديقات عزيزات منهن: سلوى مبيضين, كريمة الشوا, إيفا فاخوري وليلى حياري.