الراي
المتابع للأخبار الصادرة عن جهاز الامن العام في بلدنا، يستطيع رصد واحد من اهم مؤشرات التحولات السلبية الكبيرة والكثيرة التي طرأت على مجتمعنا، ممثلة بالجريمة والارتفاع الملحوظ في مستوى انتشارها وتنوعها في مجتمعنا، فقد صرنا نقرأ عن اب يقتل اطفاله، وعن ابناء يقتلون والديهم، وزوج يقتل زوجته، وزوجة تقطع زوجها، ناهيك عن قتل الاخ لأخيه او اخته، كما صار من المكرر ان نقرأ عن وقوع عمليات السطو المسلح على البنوك ومحطات الوقود والصيدليات، بالاضافة الى عمليات النصب والاحتيال التي صارت وسائل التواصل الاجتماعي من اهم ادوا?ها، مرورا ببيع اللحوم والاغذية الفاسدة، وصولا الى عصابات تهريب المخدرات وترويجها، حتى وصلت هذه السموم الى مدارسنا.
تصاعد الجريمة في مجتمعنا ليس التحول السلبي الوحيد الذي اصاب هذا المجتمع، ولكنه مجرد استشهاد للدلالة على ما وصلنا اليه من تردٍ وتفسخ اجتماعي، ناتج عن التردي الاقتصادي، وهذه من سمات المجتمعات التي تسيطر عليها مفاهيم المادة البحتة، فتنمو الأنانية والفردية، وتتراجع روح الجماعة ومفاهيمها، وهي نتيجة حتمية لتراجع الجانب الروحي لدى الفرد ومن ثم الجماعة لحساب الجانب المادي الغليظ، الذي تسيطر فيه الرغبات والغرائز والشهوات التي تؤدي الى عدم التردد في ارتكاب الجريمة لتصل الى ما تريد. وكل ذلك ناجم عن اختلال نمط التربية?السائدة في المجتمع، حيث علت مفاهيم الكسب والجشع والانا وساد البخل والشح، وغيرها من المفاهيم المادية، على حساب مفاهيم الاعتدال والرحمة والإيثار والجماعة، ولا يتخلص المجتمع من هذا الخلل الا باعتدال ميزانه التربوي لتحقيق التوازن بين متطلباته المادية واحتياحاته الروحية، التي لا تتحقق الا بمغالبة شهوات النفس، وهو ما علمنا اياه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال عليه السلام عند عودته من ساحة حرب: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الاكبر، وعندما سئل عليه السلام عن الجهاد الأكبر قال مجاهدة النفس.
هذا التوجيه النبوي أفرز مدرسة تربوية عظيمة في المجتمعات الإسلامية ممثلة بالتصوف، الذي جمع اهله بين الجهاد ضد العدو ومجاهدة النفس للتغلب على شهواتها، وعلى جموحها المادي، خاصة عندما يكون بيدها قوة وسلطان، لذلك كان التصوف في جانب من جوانبه ثورة على الظلم، مثلما هو ثورة على الانحراف والمادية، وهو يمثل الجانب المشرق في الدعوة الى الله باللين، والموعظة الحسنة على قاعدة وجادلهم بالتي هي أحسن. لذلك لا غرابة في ان تسعى بعض المدارس المحسوبة على الإسلام لتشويه صورة التصوف، لانه يتناقض مع قسوتها وغلظتها، واعتمادها الز?ر والتكفير في التعامل مع غيرها حتى من المسلمين، وهي مدرسة تهتم بالقشور كطول الثوب وقصره، ومثله طول اللحية وقصرها، بينما ينصرف التصوف الى جوهر الإسلام بتنمية الروح، لتحقق التوازن في حاجات المجتمع المادية والروحانية، عبر منظومة قيمية متكاملة، صرنا بحاجة اليها في تصدينا لعدونا عبر تصدينا لشهوات نفوسنا، وهذه من اهم حكم رمضان شهر الفتح المبين.