الغد-ربى الرياحي
في وقت تفرض فيه الشاشات السيطرة على التفاصيل اليومية وتختصر الصورة الكثير حتى أصبحت الطرف الأقوى في الحكاية؛ تأتي الكتب الصوتية لتعيد ترتيب العلاقة بالقراءة لا كبديل للكتاب الورقي أو الإلكتروني بل جسر آخر نحو المعرفة والاكتشاف.
هي كتجربة مختلفة استطاعت أن تحول القراءة من شكلها التقليدي والذي يكون من خلال العين إلى متعة جديدة توثق قيمة القراءة عن طريق الاستماع بالعقل، فصار الصوت وسيطا حيا يعيد للنص الدفء حيث تستحضر اللغة بنبرات مختلفة تجعل القارئ المستمع يقترب من النص بإحساسه دون أي قيود.
الأثر للكتب الصوتية أنها جعلت من القراءة عادة يومية يمكن ممارستها أثناء التنقل والرياضة وحتى المهام المنزلية. كما أنها فتحت أفقا جديدا للفئات التي طالما وضعت على هامش القراءة كالمكفوفين والأميين وأيضا أولئك الذين يثقلهم التركيز البصري الطويل.
ماجد سائق يجد بحكم عمله الطويل مشقة كبيرة في إيجاد مساحة للقراءة التي يحبها ويتعرف على نفسه من خلالها يقول شعوره الدائم بالإرهاق والتعب كان يمنعه من أن يمسك كتابا ويقرأه. لكن الأمر تغير تماما عندما بدأ يستمع للكتب الصوتية التي حلت له المشكلة وذلك أثناء قيادته للسيارة.
ماجد اكتشف أنه يستطيع أن يقرأ روايات وكتب بأكملها وهو عالق بالزحام فأصبح الزحام الذي يرهقه مساحة لرحلة أدبية واستعاد بذلك صلته بالقراءة التي كادت تنقطع ويفقد إحساسه بعالم يتيح له أن يعيش أكثر من حياة.
مروة هي الأخرى انقطعت عن القراءة لوقت طويل بعد ولادة طفلها الأول وانشغالها بأمور المنزل ودورها الجديد كأم كانت تعتقد أن لا وقت لديها لشيء. حبها الكبير للقراءة لم يفارقها لحظة هي لم تتخل عن تلك السعادة التي كانت تصنعها لها القراءة ولأنها تحترف الغوص في اكتشاف عوالم أكثر شغفا ومتعة، فقد وجدت في الكتب الصوتية رفيقا يساعدها على توثيق علاقتها بالقراءة رغم المهام المنزلية الكثيرة ومسؤوليتها تجاه طفلها.
ويشاركها التجربة نفسها عمر الذي فقد بصره في الثلاثين من عمره؛ يقول "كنت أعتقد أن علاقتي بالكتب انتهت للأبد وأن القراءة ستكون حلما مستحيلا لكن اعتقاده هذا تلاشى تماما وتحديدا بعد سماعه لكتاب صوتي كان يتحدث عن تطوير الذات".
عمر وبعودته للقراءة أصبح يشعر كما لو أن نافذة انفتحت له على العالم فعاد يستمع للشعر والروايات والفلسفة. وتشير بعض الأبحاث الحديثة إلى أن الاستماع للنصوص يحفز مناطق الدماغ ذاتها المسؤولة عن الفهم والتخيل كما في القراءة التقليدية بل قد يزيد من عمق التجربة السمعية حين يتجسد النص عبر الأداء الصوتي للمؤدي. فالصوت لا ينقل الكلمات فقط بل ينقل أيضا النبرة والانفعال، الأمر الذي يجعل المتلقي أكثر قربا من المعنى وأكثر انسجاما مع النص.
والكتب الصوتية أعادت جمهورا عريضا إلى القراءة، فالأشخاص الذين يجدون صعوبة في التركيز مع الكتب الورقية أو من يعانون من ضعف البصر أو حتى من ابتعدوا عن عادة القراءة سنوات وجدوا في هذه التقنية جسرا لاستعادة علاقتهم بالمعرفة.
بدوره يبين الاختصاصي التربوي الأسري الدكتور عايش نوايسة أن الكتب الصوتية تعد تطورا مهما في مجال تنوع أشكال القراءة من خلال توظيف التقنيات الحديثة ولا سيما في إتاحة الاستماع السهل غير المقيد بزمن أو مكان محدد.
وهذا يسهم بدرجة كبيرة في إيجاد حل منطقي لمن يعانون من ضيق الوقت وعدم القدرة على تخصيص مساحة لذلك، إذ يمكن الاستماع إليها في السيارة أو أثناء ممارسة الرياضة والأعمال المنزلية بطريقة سهلة ومبسطة ومتاحة للجميع.
هذه التجربة، وفق نوايسة، تعتمد على حاسة السمع مما يضيف بعدا عاطفيا بفضل أداء الراوي ونبرة صوته والمؤثرات الصوتية المرافقة وهو ما يترك أثرا إيجابيا لدى المستمع. ومع ذلك تبقى القراءة التقليدية أكثر تركيزا إذ تساعد على التأمل وتمنح القارئ وقتا كافيا لتحديد اللحظة التي يكون فيها أكثر صفاءً مما يشجع على التفكير النقدي ويترك انطباعا أعمق من الاستماع وحده.
أيضا؛ الكتب الصوتية قدمت حلولا لمن فقدوا شغف القراءة أو شغلتهم الحياة عن زيارة المكتبات والمطالعة، إذ جعلت القراءة أقل عبئا على القارئ كما أن توظيف الصوت بشكل متنوع مع الموسيقى يجعل التجربة أكثر إثارة وتشويقا ويعيد شغف القراءة عند دمجها مع أنشطة الحياة اليومية كالرياضة أو قيادة السيارة، وفق نوايسة.
هذا بدوره يمهد للعودة إلى القراءة التقليدية بما تمثله من ارتباط أصيل مع أمهات الكتب. ويتضح من ذلك أن الكتب الصوتية ليست بديلا عن الكتب الورقية بل مكملة لها فرضتها ظروف الحياة والتطور التقني وضيق الوقت لدى الأفراد. ومع ذلك تظل القراءة النصية أعمق وأفضل. ومن الفروق الأخرى بين القراءة الصوتية والقراءة النصية التقليدية أن الأولى تزيد من معدل استهلاك المعرفة بفضل إتاحة الاستماع لعدد أكبر من الكتب خلال فترة قصيرة لكن على حساب فهم المعلومات وتحليلها واستيعابها نقديا. ولذا نلاحظ أن أكثر المستفيدين من الكتب الصوتية اليوم هم الأشخاص كثيرو السفر والتنقل وذوو الإعاقة البصرية والطلبة فضلا عن الأطفال والمعلمات في رياض الأطفال.
ومن المعروف أن أسلوب الراوي في عرض النص وطريقته في الأداء يتحكمان بدرجة كبيرة في مدى تفاعل المستمع معه حيث يسعى الرواة إلى تنويع أساليبهم لتناسب جميع الفئات العمرية. ويعد الراوي حلقة الوصل بين الكاتب والجمهور المستهدف وأداؤه يؤثر مباشرة في استمتاع المتلقي وفهمه للنص.
ومن أبرز مزايا الكتب الصوتية، بحسب نوايسة، أنها أعادت تعريف القراءة في زمن تراجعت فيه بسبب مشاغل الحياة وتأثير مواقع التواصل الاجتماعي التي أسهمت في إضعاف القراءة النصية. وهكذا وسعت الكتب الصوتية مفهوم القراءة واختصرت الزمان والمكان وحتى الكتاب نفسه بما يواكب التطور التقني والرقمي ويقدم النصوص الكلاسيكية بأسلوب أكثر حيوية وجاذبية وقد ساعد ذلك على كسر الحاجز بين المقتنيات النصية التاريخية القديمة والجمهور المعاصر.
ويرى نوايسة انه من المتوقع أن تسهم الكتب الصوتية مستقبلا في تعزيز الثقافة العامة وإعادة الجمهور إلى القراءة بطريقة تتلاءم مع العصر عبر الدمج بين الاستماع والعمل دون التأثير في الإنتاجية وهو ما يخلق بيئة ثقافية تربط بين الأصالة والمعاصرة.
ومع ذلك، يبين نوايسة أنه ما زالت هناك تحديات أمام انتشار القراءة الصوتية مثل غياب الإنتاج الاحترافي ونقص الرواة وارتفاع التكاليف المادية وضعف التشجيع والتنوير الثقافي وعدم تبني هذا النمط في المؤسسات التربوية لكن إذا جرى التعامل مع هذه التحديات وإدماج الكتب الصوتية في عمليات التعلم والتعليم فإنها ستكون مدخلا مهما لغرس حب القراءة وتذوق الأدب منذ الصغر ونشر هذا النمط بين مختلف فئات المجتمع.
وترى مدربة المهارات الحياتية نور العامري أن الكتب الصوتية تعتبر وسيلة ذكية ومبتكرة لتقريب المعرفة من الناس في زمن سريع الإيقاع. فهي تكسر الحواجز التقليدية أمام القراءة، خصوصا لأولئك الذين يشعرون بأنهم لا يجدون الوقت الكافي لفتح كتاب ورقي. الاستماع إلى كتاب أثناء القيادة، المشي، أو حتى الأعمال المنزلية، يجعل من المعرفة جزءاً طبيعياً من الروتين اليومي. كما أنها تمنح مساحة للتعلم بأسلوب مختلف، يعتمد على الحواس السمعية ويعزز القدرة على التركيز والانتباه، خاصة للأشخاص الذين يتشتتون بسهولة مع النصوص المطبوعة.
من منظور تطوير المهارات الحياتية، الكتب الصوتية توسع الخيارات وتلغي الأعذار، فهي تقول للقارئ: "ليس عليك أن تختار بين انشغالات حياتك والمعرفة، بل يمكنك أن تدمجهما معاً، بحسب العامري.
لكن بالمقارنة مع القراءة التقليدية، هناك فروق جوهرية أهمها التركيز والانتباه: القراءة الورقية أو التقليدية تفرض حالة من السكون والتركيز، حيث ينغمس القارئ في النص ويبطئ من وتيرة يومه، بينما الكتب الصوتية قد تكون أكثر عرضة لتشتت الانتباه لأنها ترافق أنشطة أخرى.
إلى ذلك، التفاعل مع النص، فالكتاب الورقي يمنح القارئ فرصة تدوين الملاحظات والتوقف عند فكرة محددة وإعادة قراءتها بسهولة، بينما في الكتب الصوتية يحتاج المستمع لإعادة المقطع أو مراجعته بدقة إذا أراد التعمق. وتنوه العامري أن القراءة البصرية تعتمد على العين، وتترك مساحة للخيال في تصور المشاهد والأصوات، أما الاستماع فيضيف بعدًا صوتيًا من خلال نبرة الراوي وإيقاعه، ما قد يثري التجربة أو يوجّهها في اتجاه معين. وتمنح الكتب الصوتية تمنح فرصة أكبر للأشخاص الذين يعانون من ضعف البصر أو صعوبة في القراءة، مما يجعلها أداة شمولية أكثر.
باختصار، الكتب الصوتية ليست بديلاً كاملاً عن القراءة التقليدية، بل هي شكل موازٍ للمعرفة، يمكن أن يثري حياتنا إذا عرفنا كيف نوازن بينهما بحسب أهدافنا وظروفنا.