عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Apr-2019

«قلاية» باسم سكجها*رشاد ابو داود

 الدستور-في كل بلد ثمة «وسط البلد». إنها سرّة المدينة. حافظة اسرارها وبداية ازدهارها. فيها تجد القديم يجلس على مقاعد من خشب. يشرب الشاي باستكانات مذهبة. يرتدي ملابس عاندت الزمن وصمت اذنها عن صرعات و صرخات الموضة. تتحدث بثقة عن الماضي الجميل وتنظر للحاضر كما لو أنه طفل صغير أضاع الطريق وتاه عن اهله في زحمة الاقدام السريعة والعيون التي تحملق في اللاشيء.

 
هذا مقهى عجوز هرمت كراسيه. لكنها ظلت قادرة على حمل أجساد كانت في عز صباه ثقيلة. خفت وصارت بفعل الزمن نحيلة. وتلك لوحات معلقة على جدران علاها الغبار المتراكم عبر السنين الطويلة. الشاي هو الشاي. القهوة هي القهوة. لاشيء فيهما تغير. كل شيء عداهما تغير. الكاسات أم جرس لم تعد تدق ساعات المجيء و الرواح، الفناجين البيضاء ذات الخصر الازرق والأذن التي بعضها مقطوشة، صارت «مغات» ملونة. أحمر و أزرق و أصفر و أخضر ومن كل لون بهيج. لكنها حزينة..حزينة. لم يعد الفرح قهقهات تحلق في فضاء المكان. ولا دخان السجائر يدخل في العمق ثم يطفو دوائر دوائر على سطح النفوس القنوعة المستريحة. باكيت الـ»كمال» بستة قروش، «ريم» بعشرة، «جولد ستار» باثني عشر قرشاً. «اللولو» بثلاثة قروش ونصف القرش لمن دخله لا يتعدى عشرين ديناراً. كلها صناعة محلية وطنية. لم يكن ثمة أجنبياً يزاحم وطنياً. لا مطيع يغش الوطن، لا فاسد يدعي الأمانة ولا عاهرين يحاضرون في العفاف.
 
في وسط البلد شوارع ضيقة اتسعت ذات زمن للقادمين من جبال عمان وحواريها. مشياً على الأحلام أو بالسرفيس. قرشان ونصف من اي مكان. السائق الذي لا تعرفه ولا يعرفك هو صديقك طيلة الطريق. يظل يعرفك و تعرفه كلما رآك واقفاً أمام بيتك، وقد يصبح صهرك أو نسيبك أو رفيقك. كان الكل طيبين بدون نوايا خبيثة. الجيب هو البنك بلا شيكات مؤجلة، بلا نصب واحتيال مع سبق الاصرار والترصد لمضاعفة الرصيد.
 
اليوم ولتطهر نفسك من الهواء الفاسد و مصائد الفاسدين تقول لصاحبك : يللا ننزل ع وسط البلد. هناك لا ربطات عنق تخنق الروح ولا أقنعة تغطي الوجوه. الناس بكر على حقيقتهم. لا يحتاجون لتغيير لهجتهم التي تعلموها في القرية و المخيم والمدينة. الارصفة التي كانت للمشاة و بسطات الترمس والفول والقضامة والبزر الساخن صارت معرضاً لمنتجات الصين التي لم نعد نذهب اليها لنطلب العلم بل لنعقد صفقات البضاعة نخب «تالف».
 
اختنقنا بالهواء المعلب وبنار الحرب الباردة و الساخنة و..باسرائيل التي تتمدد على جسد الأمة «من المتوسط الى الفرات الى الخليج». تعبث أصابعها بشوارب كان يقف عليها الصقر. أصبحنا حمائم لا تبيض وان باضت فقست في واشنطن و تل أبيب.
 
 لامكان تهرب اليه لتجدك الا اثنين. اما الى ناس وسط البلد أوالى أرض تزرع فيها البندورة و البصل و الثوم والفلفل والبقدونس. وأشجار من عنب و دراق و خوخ و مشمش ورمان ومن كل ما تشتهي الأنفس. افطارك زيت وزعتر وبيض من دجاجات تربيها. وعشاؤك «قلاية بندورة» يتوسطها قرن فلفل كتلك التي شهانا عليها باسم سكجها على صفحته في الفيس بوك وقال ان كل مكوناتها من طرف البيت الريفي في دبين.
 
لله درك يا باسم. اختصرت الطريق مبكراً بالعودة اليك. انتبذت مكاناً قصياً وتركت عنك هذا الهم والوهم الثقيل!