عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Jan-2025

نظرات في رواية «باندورا: متعة الهروب» لهديل غانم

 الدستور-انتصار عباس

 
تأخذنا الكاتبة الصحفية والروائية هديل غانم في روايتها «باندورا: متعة الهروب» الصادرة عن دار شهرزاد للنشر والتوزيع 2024، عمان - الأردن، إلى عالم يحاكي الأماني الباطنة فينا، والتي تتجسد عبر الحلم، إذ تفتح الآفاق لعالم أكثر جمالا، ترسمه المخيلة وتعيش فيه ليغدوا واقعا نهرب فيه حبنا وأشواقنا من عالم الخيانة، و»تخاريف المجتمعات وإرهاصات العصر»، إلى عالم أكثر صدقا وإنصافا، أو هكذا نعتقد، عالم يعطي المرأة حريتها يسمح لها بالحب حيث تتحرر من تبعات العقل المحكومة بعادات وتقاليد المجتمع التي تسلب المرأة حقها في ممارسة دورها الطبيعي في الحياة كإنسانة وليس ضمن التصنيف الجندري للمجتمع كـ(أنثى)، وقد نسيت هذه المجتمعات أو علها تناست أنها إنسانة قبل أن تكون أنثى، تبدأ أحداث الرواية بحكاية امرأة تٌدعى ليلى، ليلى امرأة مقبلة على الحياة أحبت (مجدي) رسمته أحلامها، وهيئته في دواخلها ليكون شريكا، يبحران معا في بحر الحياة، لكنها تصطدم بتهرب (مجدي) منها بذريعة السفر إلى دبي للعمل هناك، فهو لا يستطيع ربطها بمصير مجهول هو نفسه لا يدريه ؛ لكنه في الواقع كان قد أدمن الخيانة فهو مسافر وصديقتها المقربة، (مريم) التي عايشت كل أسرارها وظروفها الحياتية من فقد للعائلة، وآلام، لكنها لم تستوعب فكرة سفره وتركه لها وحيدة، وقد أخفى عنها حكايته مع صديقتها، تقف أمام المرآة وتبدأ الأحلام تنسج أمانيها في قدومه للاعتذار، موهمة نفسها أنه لا يستطيع الاستمرار دونها، يفاجئها صوت جرس الباب، ظنته لوهلة هو، لكن القادم كان صديقتها مريم سلواها ومستودع أسرارها، تخبرها بما قاله مجدي لها، وكأن مريم جاءت لتقصي الأخبار، فوجدت صديقتها في دوامة، تتركها وتمضي على أن تلتقيا في اليوم التالي في منزل «مريم» ثم تتفاجأ بسفر مريم إلى دبي، وقد أخبرها (عمر أخو مريم) بذلك.
(ليلى) العصفور الحالم، المغدور باسم الحب والصداقة، من أعز اثنين، من هنا تبدأ الأحداث بالتصاعد وقد تبدل حال «ليلى «، إذ تبدأ بالهروب من عالمها المأزوم بالخراب والدمار إلى عالم زاهي جميل مغاير لكل ما هو واقع، تخلق شخصياته وترسمها كما تريد، فكان (أدهم، وإسلام، والدكتور يسري) الطبيب النفسي، وصديقتها (كارمن) التي تعرفت عليها من خلال العمل، وعوالم أخرى خرجت فيها عن ذاتها وتحولت لامرأة لا مبالية، لا شيء في حياتها سوى المتعة بالشرب والرقص والصداقات، وعملها الذي أحدث نقلة نوعية في حياتها وانتشلها من الفقر، وكان العتبة التي مكنتها من ولوج ذاك العالم الجديد، فكانت مبرمجة، حيث استطاعت ولوج عوالم أخرى منها تعرفت على شخصيات جديدة، تتشابه وأحلامها فعرفت إسلام كصديق لكنه أحبها ك امرأة، وأدهم الذي أجج مشاعرها وشعرت بالحب تجاه في البداية، لكن تلك المشاعر انطفأت لحظة اللقاء، لتجد مفارقات بين ذاك الواقع وشخوصه، وبين الواقع الحقيقي، أحلام مرعبة بدأت تجتاحها تفقدها توازنها، تشظي، قلق وخوف ، وهواجس ثم الهروب، تحاول صديقتها (كارمن) مواجهتها بالحقيقة لكنها كانت تفضل الهروب.
هناك مشاعر كامنة بالحب لـ(عمر) شقيق ليلى، لم تكن تدركها، بدأت بـ انتشالها من وساوسها وإرهاصات تلك العوالم الزائفة، إذ بدأ وجوده يطغى على كل شيء، ثم تأتي الصدفة التي رسمها القدر لتلتقي (ليلى) بصديقتها (مريم)، أخت (عمر) وزوجها (مجدي) الحبيب الغادر، وهنا كانت المواجهة، لكنها كانت الأقوى، وقد أعطتها تلك الصفعة قوة، وصلابة رغم ضعفها في الداخل، ثم محاولة مجدي بأنانيته تشويه صورة عمر وقد أصابته الغيرة من علاقتهما، وهنا تصور غانم نرجسية الرجل وأنانيته، كما تصور عالم الأقنعة والزيف، ثم اكتشافها (صندوق باندورا)، ودلالة الصندوق حسبما تشير الأسطورة إلى مآس البشر، وهو صندوق يخص أمها، وحين فتحته وجدت مأساة لم تكن تعرفها:
«الصندوق الذهبي المرصع وقد رأته في يد والدتها أكثر من مرة.. كانت تخفيه عن الأعين طوال الوقت»، كان هناك بعض الصور، ومذكرات أمها وهي تشكو تغير زوجها (أحمد) أبو ليلى وأنانيته معها، وخيانته لها رغم حبها الكبير له، ثم تكتشف شيئا أخرا كان مخبأ في الصندوق: «زجاجة دواء صغيرة بنية مكتوب عليها بعض الكلمات».
ثم خروج تلك المتلبسة في المرآة (ليلى الأخرى) وتبدأ المواجهة بينهما، ليلى الحقيقية، وليلى المرآة، القناع الذي رسمته هي، صراع الكينونة بين زيف، وحقيقة، فكانت الصحوة، وتنتصر الحقيقة، وهذه إشارة إلى قدرتنا على التغيير والتغلب على المشاكل.
طرحت الرواية مشاكل مجتمعية طرأت على المجتمع في ظل العولمة ودخول عالم جديد إلى حياتنا، وقد أفرغت الحياة من المعاني الإنسانية الحقيقية، وأدخلتنا إلى عالم الأقنعة والوهم فلكل شخصية مئات الوجوه، وحالة (ليلى) مثالا على مئات الحالات التي حملتها الظروف لدخول تلك المتاهة، برعت الروائية في تصوير المشهد السردي، وقد كشفت زيف هذه العوالم، عبر لغة سردية جميلة، حملت في طياتها أحداث مشوقة، اعتمدت فيها لغة الحوار والإيحاء.
جاء تسلسل الأحداث بصورة منطقية، تجذب القارئ وتشده إليها.
هناك عمق في الطرح والمضمون وقد سلطت الرواية الضوء على المجتمع ومشاكله في ظل عالم مستحدث جديد، فقدمت تجارب إنسانية تحفر في العمق، وقد استلهمت غانم هذه المشاهد من صميم الواقع فجاء المشهد حيا تتحدث شخوصه وتتحرك، بكل حرية، كما عرفتنا غانم على العديد من الأمكنة المصرية من خلال تقديم مشهد بصري حي للمكان بصورة تخدم السرد مثل:
(عمارة عدس، المقهى المطل على النيل، مطعم السمك في السخنة) وغيرها من الأماكن الأخرى.
الروائية هديل غانم من الروائيين القلائل الذين خاضوا غمار عالم الحداثة في كتاباتهم، وقدمته بصورته الحقيقية، دون أي تكلف.
تعتبر الرواية من الروايات الهامة التي استطاعت ولوج عالم مستحدث جديد، وسبر عوالمه الزاهية، الطنانة والمغرية، حملت الرواية دعوة باطنة في أن نكون نحن مهما تكالبت علينا الظروف والمحن، وأن نواجه بكل قوة، ففي دواخلنا مكامن القوة، ولا بد للحقيقة أن تشرق ولا بد للزيف أن ينجلي.