عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    25-Nov-2021

فتنة الجدة.. بلادة الخبرة..!* علاء الدين أبو زينة

 الغد

أن تختبر شيئاً– أيَّ شيء- على أنه مشوق، ممتع، جديد، مدهش، هو ما يمنح الحياة معنى متجدداً. ولكن، من المنطقي أنكَ كلما اختبرتَ أكثر، ندرت الأشياء التي تفاجئك، وتدهشك. بل إن ما كان يُعتبر مدهشاً ذات مرة، سيصبح هو نفسه سخيفاً ولا يترك انطباعاً عندما تصادفه بعد أن تكونَ قد قسّتك الخبرة.
أجريت تجربة. كنتُ في طفولتي، مثل الكثيرين من أبناء جيلي، متعلقاً -من بين الأشياء الأخرى- بقراءة سلسلة من القصص، تُسمى «المغامرون الخمسة». والمجموعة هي مغامرات أو «ألغاز»، كما كنا نسميها، قصص بوليسية للأولاد، من تأليف الكاتب المصري محمود سالم، وصدرت عن «دار المعارف» المصرية شهرياً. وفيها، يقوم خمسة أطفال، ثلاثة أولاد وبنتان، أعمارهم بين التاسعة والرابعة عشرة، بالتحقيق في قضايا سرقة، أو اختطاف، أو حتى جاسوسية، ويجمعون الأدلة ويحللونها حتى يصلوا إلى حل «اللغز».
ولا أستطيع أن أصف المشاعر الفريدة من التشوُّق والإثارة التي اختبرتها لدى قراءة هذه الكتب صغيراً. ومع ذلك، ظلت أطياف تلك المشاعر- التي لا تصفها كلمات- معي كل هذه العقود. وقد جربتُ في غمرة الانشغالات أن أحاول استعادة تلك المشاعر الحقيقية نفسها، كنوع من استجلاب لتلك الإثارة والتشوُّف. وبسهولة وجدتُ «الألغاز» على «الإنترنت» محفوظة بطريقة المسح الضوئي «سكانر». وبذلك بدت أقرب إلى الحقيقة: نفس الأغلفة، والورق الأصفر وعليه علامات الطيّ، والحروف المنضّدة باليد بحروف الرصّاص للطباعة. ومع كل غلاف تأكدت قليلاً ملامح الأجواء والمشاعر التي رافقت قراءة كل واحد من هذه الكتب قبل عقود. وقرأت عدداً كبيراً منها على الحاسوب في أيام.
ويا للخيبة! لم يُقتصر الأمر على أنني لم أستعد أبداً تلك المشاعر القديمة. لقد وجدت هذه القصص، التي كانت ذات مرة مشوقة ومدهشة، وقد أصبحت الآن سخيفة، سيئة الحبكة، غير منطقية، مليئة بالهفوات والمغالطات – والأخطاء النحوية أحياناً. وتساءلتُ: كيف كنتُ أنتظر بلهفة صدور العدد التالي؟ كيف كنْتُ أُمنى بالخيبة إذا ذهبت إلى مكتبة القرطاسية التي نستأجر منها الكتب بقروش ونعيدها خلال أيام، ووجدت أن الأعداد التي لم يستأجرها غيري قديمة ومرّت علي؟ كيف كانت الحبكة تشدُّني ولا أكتشف الهفوات والهنات؟
وفي الواقع، كان يجب أن أعرف أفضل. كلما أعدتُ قراءة كتاب أدهشني في المرة الأولى وجعلني بعده كما لم أكن قبله، كنتُ أجده أقل توهجاً، وأقل تأثيراً وإدهاشاً. وفكّرت: إنك كلما قرأتَ أكثر، تربّت لديك ذائقة صعبة الإرضاء. إن خبرتك تجعلك أقل قابلية للتأثر والانفعال لأن كثيراً من العواطف والانفعالات تكون قد أصبحت مألوفة. وفي موضوع القراءة، إذا كنتَ متخصصاً في الأدب والنقد وتراكمت خبرتك، فإنك تصبح أكثر انتقائية وتتعقد مقاييسك للحُكم. وبالتدريج، لا يعود يعجبك ويدهشك إلا ما ندَر.
وهذه مشكلة. إن خبرتكَ تجعل استجابتك بليدة صعبة التحريض. ومعها يقل التفاؤك بالمشاعر والانفعالات الرائعة التي يحركها الاكتشاف واستقبال شيء جديد مبهر. ويتركز اهتمامك بدلاً من ذلك على النبش بحثاً على العيوب والنواقص. وفي الحقيقة، لا يتعلق الأمر بالقراءة على وجه التحديد. ثمة ذلك التأثير اللامتوقع الذي تحدثه الخبرة، النضوج، كثرة الاحتكاك، في كل شيء: لا شيء يداني في غناه الانفعالي وعلاقته بالروح الحب الأول، والسفر الأول، والمنزل الأول، وكل شيء أول. وربما لذلك يحنّ الجميع إلى زمن أبكَر، عندما كانت مذاقات الأشياء طازجة قبل أن تصبح، بالاعتياد، ممجوجة وتكاد تكون بلا طعم.
ربما لذلك بالضبط، بسبب البلادة التي تصنعها الخبرة في الشعور، وافتقاد فتنة الجِدّة، قال الشاعر الحكيم، زهير بن أبي سُلمى: «سئمتُ تكاليف الحياةِ ومَن يعش.. ثمانين حولاً لا أبا لكَ يسأمِ».