الدستور-إبراهيم خليل
كثير من الأشخاص، موهوبين وغير موهوبين، يحبون سرد الحكايات، وغالبا ما يدعو الناسُ بعضهم بعضا ليتحدثوا، ويسردوا الحكايات للتسلية، وإزجاء الوقت. وهذا شيء لا عيب فيه، ولا غبار عليه، بيد أن هذه الرغبة قد تتضخم لدى بعض الناس، فينشأ لديهم الولع بتأليف الحكايات ونسجها، ونجد هذا موفورا بكثرة في كتب اليوميات والتاريخ والسير والحكايات الشعبية وقصص الأمثال والمقامات والمرويات والخرافات التي تناط بالحيوان. وهذا الشغف قد يغدو هاجسًا لدى بعض الأشخاص فيولعون بالرواية، وهي الفن الأدبي الأكثر قربا من هذا اللون. فإذا تصدى بعضهم لكتابة الرواية، من غير دراية بهذا الفن، وقع فيما لا تحمد عقباه؛ ذلك لأن الرواية من حيث هي فن ليست حكاية فحسب، ولكنها حكاية تخضع لمنطق نَسَقي هو الحبكةPlot التي تنتظم خيارات الكاتب وَفقًا لمبدأ العلة والمعلول، أو السبب والنتيجة.
وقد أوضح لنا فورستر Forster (1879- 1970) - وهو كاتبٌ قصصيٌ، وروائيٌ، له بعض الروايات المشهورة منها: نهاية آل هواردHowards End (1910)، وغرفة بمنظر A Room With a View وطريق إلى الهند A Passage to India وغيرها- أهمية الحبكة، واختلافها عن الحكاية في كتاب له على جانب من الأهمية بعنوان Aspects of the Novel. فإذا كان ملخّص الرواية يكتفي بالقول ماتت البطلة، فهذه حكاية. وهي حكاية غير مقبولة، روائيًا، إلا إذا اتّضح أن البطلة ماتت حزنا على البطل، ففي هذه التكملة اتضح أنّ لموت البطلة سببًا، وهذا لا يعني أنّ الناس لا يموتون أحيانا موْت الفجأة، ولكن قانون الفن مختلف عن قانون الحياة، في الرواية كما في غيرها، ففي الرواية ينبغي للكاتب أن يعزو كل واقعةٍ، أو حادثةٍ، لسبب من الأسباب، وهذا هو المنطق الذي يغلب عليها. فالمصادفاتُ، والوقائع، التي لا تستند لمثل هذا تشهد على ضعف الكاتب، وربما تجعل من الرواية بما فيها من شخوص، وحوادث، وحوارات، وأمكنة توصف، وأزمنةٍ تتقلَّب بين الماضي والحاضر، عديمة القيمة، لأن الحبكة نفسها عديمة القيمة.
ففي رواية بعنوان « جسر التفاحة « للعراقي عواد علي يجد القارئ الكثير جدًا من الهفوات كالحديث عن علاقة عامل (بناشر) مصري بروايات نجيب محفوظ، وما قرأه من الروايات العالمية، أو صلة سيدة تقدم أحد شخوص الرواية بطلب يد كريمتها، فإذا هي أكثر اطلاعًا على الأدب العالمي من ماركيز، ومن براون- مؤلف شيفرة دافنشي- لكن الثغرة الأكبر من هذا كله، وتؤكد افتقار المؤلف للخيال الروائي القادر على حبك الحوادث حبكا لا يختلّ، ولا يضطرب، زعمه في موقع أن أسرة السارد تتألف من ابنين وأمهما والأب الذي مات شهيدا في مطلع الحكاية، لنكتشف، قبيل انتهاء الرواية بقليل، أن لهما أختا لم تذكر في أيِّ موقع سابق، واسمها أميرة. وقد درست العلوم التربوية في الجامعة، وتقدم لخطبتها آيدِن، وهو ابن أصلان البياتي، صديق السارد. فمثل هذه المفاجأة تؤكد أن ذاكرة المؤلف قد خذَلَتْه. ففي الموقع الذي حدَّد لنا فيه حجم الأسرة نسي أميرة، وعندما اقتربت الرواية من نهايتها ص 140 تذكرها لأنَّ واحدًا تقدم لها خاطبًا، ونسي أنه لم يذكرها في الموضع الذي ينبغي لها أنْ تذكر، فجاءَ ظهورها برهانا قاطعا على عدم مراجعة المؤلف لما كتبه قبل النشر.
نموذج كارثي:
ومن النماذج الكارثية في الرواية العربية تلك الحكاية التي تحمل عنوان 1989 وهو عنوانٌ يذكرنا برواية 1984 لجورج أورويل Orwell التي نشرها في زمن مبكر جدًا 1949. فالمؤلف - رحمه الله- وهو أكاديمي وكاتب قصصي وروائي - يسند دور السارد فيها لصحفي (سلمان) في جريدة تصدرها مؤسسة الحقيقة التي لا علاقة لها بالحقيقة. وقد نُقل سلمان نقلا تأديبيًّا من عمان إلى معان. وفي نيسان من العام المذكور شهدت هذه المدينة كغيرها اشتباكاتٍ، وحوادثَ عنفٍ، عرفت باسم هبة نيسان. وقد أنهى المؤلف حياة هذا الصحفي الجريء بمقتله على أيدي الأمن في الهبّة المذكورة أيْ في نيسان 1989. ولكنه، في غمرة النِسْيان، ترك هذا الصحفي ذات ليلة يقضيها ساهرا مع ثلة من أصحابه يتحدثون عن الفساد، فيتذكر هو وثلّته وقائع تجري في تونس، ومصر، بعد نحو عشرين عاما ونيف على أنها وقعَتْ في الماضي. ففي ص 187 يتندَّر أحدهم ساخرًا من ضروب الفساد التي نسبتها وكالات الأنباء العالمية لزوجة زين العابدين بن علي- الكوافيرة سابقا - وسيدة تونس الأولى، تليها ثرثرةٌ ضاحكة عن الفساد الذي كشفت عنه الصحفُ المصرية، وضلوع سوزان مبارك، والرئيس نفسِه، وابنيهما علاء وجمال، فيها، وما لهم من أرصدة في بنوك سويسرا والنمسا. علاوةً على ما تحدثوا فيه عن فلونزا الطيور، والخنازير، والنكات التي شاعت إبان ثورات الربيع العربي. فمثل هذه الثغرة في رواية 1989 لا تعدُّ هفوةً بقدر ما تبرهن على وجود أناس يتصدون لكتابة الرواية، وهم مفتقرون لأبسط أشكال الاستِعْداد، ومن أكثرها إلحاحًا قوة الذاكرة، وضرورة ربط المتأخر مما يحكى بالمتقدم، بيد أنَّ اللوم لا يقع على الكاتب وحدهُ، بل على الجهة التي قامت بنشر ما ليس رواية على أنه رواية انسجاما مع المثل « كله عند العرب صابون».
ما لا يُتوقع:
على أن قارئ رواية «ميرا» يتساءَل: كيف تأتّى للكاتب أنْ يتخيل البطلة ضحيةً لغواية شاب يصــوّره الروائي بصفته نمــــــوذجا للأرْعن، أو الأزعر، الذي لا يؤمن بأخـــــلاق، ولا بعادات، ولا بتقاليد، فالراوي يقدِّمه بصفتهِ تلميذًا لأمل، معلمة الموسيقى(كذا)، ولكنه فجأة يتناسى هذه الصفة – ويجعل منه شوبان أو بتهوفن، تتنافس عليه الفنادق ذات النجوم الخمس، والسائحات اللواتي ياتين من أقصى الأرض يحلُمْن بمداعباته وكأنه الممثل الفرنسي آلان ديلون، أو كأنَّ الرجال الفُحول انقطعوا من الدنيا، ولم يبق دون جوان (عليه القيمة) إلا يحيى الراوي. وهو مجرد عازف مبتدئ في بهو الاستقبال بأحد الفنادق.
أما منزله في الحيّ (الهاشمي الشمالي) فأشبه بإحدى الفيلات الفخمة في شواطئ ميامي، أو على نهر السين. جدرانه تكسوها اللوحات الفخمة، وخزائن المخطوطات الموسيقية، والأسطوانات الكلاسيكية التي تذكرنا بموزارت، وتشايقوفسكي صاحب بحيرة البجع.
وهذه الشخصية – يحيى- شخصيّة غير طبيعية يخترعها الكاتب، ويزرعها في بيئة غير ملائمة، ولا مناسبة، كنخلة في (قُوّار) على رأي مريد البرغوثي(1). علاوة على هذا فإنّ الذي لا ينطلي على القارئ ادعاء ميرا الذهاب لصلاة الأحد في الكنيسة البعيدة في اللويبدة لتلتقي هذا الدون جوان. أما زوجها رعد فيصدّق هذا الإدعاء على الرغم من أنه واثق بأنها لا تُصلي، وتكرارُ الإدعــــاء نفسه مرارًا، لمـــــــــدة تقارب السنتين، شيءٌ لاريب في أنه يثير الشك. وحولها منْ هم أساسًا شكاكون بها – كالعمَّة رجاء، التي تصفها بالكافــــرة، فهل يمكـــن أن تصدق أكاذيبــها. كذلك ابنتها التي طلبت منها أن ترتدي الحجاب، وابنها شادي، وهما موجودان معها في البيت، ألا يمكن لهما أن يرتابا في هذا مع استمراره مدة سنتين بلا انقطاع؟
غيابُ الدليل:
وفي رواية أخرى ب يقع الكاتب في مثل هذا المأخذ، فقد أسند دور البطل لصالح، وهو دليل سياحي يلازم فريقا تلفزيونيا يعتزم تصوير فيديو عن الطريق الذي سلكه بيركهارت مكتشف البترا، غير أن صالحا يتعرض لحادثٍ، ويسقط في حفرة موصولة بنفق تحت الأرض، ويغيب يوما كاملا عن الفريق الذي ُشغل بذبح الجدْي عند أطلال مقام هرون، وبحفل الشواء(الباربكيو) ونسيَهُ أفراد هذا الفريق مع أنه دليلُهم، وهذا بالطبع لا يصدقه القارئ إلا إذا كان يعاني من الزهايمر، فلم يتنبهوا لغيابه عنهم، ولم يفتقدوه إلا عندما فوجئوا بمروحية تبحث عنه بين الأطلالِ، والخرائب. فالمؤلف لم يلتفت، ولم يتنبه لشيء مهم، وهو وجوب انتباه الفريق التلفزيوني المنشغل بشيّ الجَدْي، والاستمتاع بوجبة (الباربكيو) لرفيقهم، فهو الدليل الذي يقودُهم، وبحوزته هاتفٌ محمولٌ يمتلكه مثلما يمتلكون، وكان بالإمكان أن يتواصلوا معه. ولكنهم لم يفعلوا، ولم يسألوا عنه، إلى أنْ فوجئوا بالمروحيات تبحث عنه بين الآثار. مع أن المؤلف لم يقلْ لنا: كيف علمت وزارة السياحة التي أرسلت المروحيات - إن كانت لديها مروحيات أصلا - بما جرى لأحد موظفيها في تلك الحفرة، وذلك النفق؟! وهذه الثغرة الكبيرة في الرواية تترتب عليها تحولات يمر بها صالح هذا، وأخطر ما في الأمر أنها تسببت بمروره في حالات نفسية يشعر فيها بما يشبه تناسخ الأرواح، فيظن نفسه أحد الذين عاشوا، وشهدوا طوفان نوح، قبل ما لا يُعرف عَدَدُه من القرون. ويهرب من الطوفان على مرأى من الأجنبي (غاريت) الذي نصحه بمراجعة الطبيب النفسي.
وبعض من لا يعرفون طبيعة الرواية، وبمَ تختلف عن الخواطر، يزعمون أن هذه الخواطر تمثل جنسًا من الرواية يسمّونها الروحانيات، أو الواقعيّة السحرية، وهذا ضربٌ باطلٌ من الظنّ.
وفي رواية للسوداني أمير تاج السر، وعنوانها 366 يتوسّط طلحة رمضان - الوزير بلا وزارة - للراوي الذي سُجن بعد افتضاح الجريمة التي وقعت في بيته - بيت الراوي- دون أن يشير الكاتب لما يتطلبه مثل هذا الفعل من ضرورة علم الوزير بوضع الراوي في السِجْن. فالقارئ يتساءَل: كيف علم طلحة رمضان بوجود الراوي في السجن؟ وما الذي أدراه بالجريمة التي وقعت في بيته؟
بعيدًا عن الرَويَّة:
والسرد العشوائي الذي يشبه هذا كثير جدًا في الرواية الموسومة بعنوان جسر بضفة وحيدة. ففي إحدى صفحات الرواية (ص31) تَذكُــرُ المؤلفة على لسان الساردة سامية أن بيتهم في الموْصل شقة ضيقة، ثم تنسى هذا بسرعة فتقول في ص 32 ما يأتي: خصَّصتْ لي أمي غرفة من الغرف الكثيرة في بيتنا لتحميض الأفلام. وتقول في موقع آخر عن سامية إنها غادرت الموصل ابنة 12 عاما مع أهلها إلى عمان قبل بَدْءِ الحرب 2003 ثم بعد سنوات عدة تقيم معرضا للصور، فتزعم أنّ في المعرض قسمين: قسمًا للصور التي تمثل الموصل قبل الحرب، وآخر لما بعدها، مع أنها غادرت عشية الحرب، ولم تعُدْ للموصل، فمتى، وكيف، التقطت تلك الصور التي تمثل المدينة بعد الحرب؟َ!
علاوة على ذلك، تلك المفاجأة التي لا يمكن أن تُتخَيَّل، ولا حتى في الأفلام الهندية. ففي ص112 يقع بصر سامية على شاب في مطعم دعاها إليه زوجها لتناول المسكوف. وإذا به (عمّار) الذي تركته في الموصل وهو ابن 12 عاما، أقل أو أكثر بقليل، والآن أصبح في الثلاثين، أو اكثر، وتغير شكله كثيرًا، وقد عرفته فورا، وتشاء الصدفة، التي قلما تحدث بنسبة1 %1000 ، أن يأتي من الموصل ليتناول العشاء في المطعم نفسه، وفي الساعة نفسها، وربما الطعام نفسه. وهذه مصادفاتٌ لا يتقبّلها أكثر الناس سذاجة، أو غفلة. ويتضح أن الكاتبة تستخفُّ بعقل القارئ، إذ تظن أنه يتقبل مثل هذه المفاجآت، ضاربة عرض الحائط بما يوجبه قانون الاحتمال، والضرورة، الذي تحدَّث عنه الكتّاب من أرسطو حتى الآن.
سُننُ الواقع:
مثل هذه المرويات، التي تخالفُ سنن الواقع، ومبدأ السبب والنتيجة، كثيرٌ. ففي رواية أخرى يعتزم البطل أن ينتحر في العقبة، مع أنه من سكان جبل الجوفة بعمان. وهذا غير مقبول، ولا محتمل الوقوع، ولا توجبه الضرورة، إلا أن المؤلف لم يكتف بهذا، بل زاد عليه أن ترك الوراق يحتجز حجرة على الشاطئ في فندق خمس نجوم (على كيف المؤلف) وأن يتجرع زجاجة من الوسكي مع أننا لم نعرف عنه أنه سكير، لكي يشبه فريدريك هنري أحد شخوص رواية هيمنغوي « وداعا للسلاح «. وهذا أيضا تعَسّفٌ؛ لأن البطل لم يجبر على الانتحار مثلما أجبر فريدريك على الذهاب للحرب. والفرق بين الأمرين كبير جدًا، لذا فإن قانوني الاحتمال والضرورة يَسْتبعدان مثل هذا التشابه بين الشخصين. وفي الصباح، مع بزوغ الفجر، يغادر الغرفة وفي جيبه هاتفه النقال الذي لا نعرف لماذا يحتفظ به، وهو يهمُّ أن يلقي نفسه في البحر لينتحر. ويقع بصرهُ على فتاة (ناردا) في ريعان الشباب تنتظر على مقعد من المقاعد المركوزة على الشاطئ. يلتقط لها صورة بهاتفه، مع أنه مُصمِّم على الانتحار، فما انتفاعه بالصورة إذا انتَحَرَ، ولقي مصيره في قبره المائي؟! ويعرف أن اسمها ناردا. والأنكى من ذلك أنه يوشك أن يغرم بها في وقت يهمّ فيه أن يفارق الحياة منتحرًا.
لتبدأ مفاجأة أخرى، فقد قدِمَت من عمان مثله للغرض نفسه، وهو الانتحار، ومن حيّ جبل الجوفة الذي قدِمَ منه، وبعد ثرثرةٍ، تغادرُ المقعد، تاركة أو ناسية دفتر مذكراتٍ يحتفظ به الوراق الذي عدل عن الانتحار، وشرع يتصفح الدفتر ليكتشف أنَّ ناردا هذه زوجة أبيه السرّية، ذلك الأب السبعيني الذي انتحر في المطبخ، وعجز ابنه الراوي عن إنقاذه.
هشاشة الرواية:
والأدلة على هشاشة الرواية العربية كثيرة جدا، تحتاج للبحث، والتقصّي، لا إلى التطبيل، والتزمير، الذي يغلب على ما ينشرُ من مقالات، ومن متابعات. فأكثر ما يُنشر من روايات لا يستحق النظر فيه، فضلا عن القراءة. ولكنّ توجيه الأنظار لهذه الهشاشة واجبٌ على النقد من باب الرأفة بالقارئ الذي يفجع بهذه الأعمال، ويقع في شَرَكٍ أساسُه حُسنُ النيّة، وأداتُه النقد المجاملُ، أو الخاطئُ، الذي يقعد به اقتداره عن تمييز الصحيح من الروايات من اللغو.