السردية الأردنية.. من أين نبدأ؟*سائد كراجة
الغد
كثر الحديث مؤخرًا عن سردية الأردن الوطنية، ويغلب في الحديث عن هذه السردية وحولها حضور الآخر الذي شكّل هذه السردية أو أطّرها. هذا الآخر، – الذي في أحسن حالاته– لم يدقق ولم يفهم التاريخ الفعلي والحقيقي للأردن، وفي أكثر حالاته فسّر وقائع التأسيس والاستقلال بوعيٍ معادٍ للدولة الأردنية وحمل عنها أحكامًا مسبقة مثل: دولة وظيفية، أو رجعية، أو ربيبة للاستعمار وما شابه من أشكال التنميط المعروفة عن الأردن ونشأته وظروف تشكّله في بداية القرن العشرين.
في المقابل، الأردن ومعظم نخبه السياسية والفكرية، وبدل أن يقدّموا خطابًا وطنيًا موضوعيًا تاريخيًا جيوسياسيًا، انغمسوا – وبذهنية الضحية– في تقديم خطاب “نفي” ما قاله الآخر؛ خطاب دفاعي في ثوب “لطمية”، باعتبار الأردن مستهدفًا مظلومًا، كخبز الشعير مأكول مذموم. وفي محاولة لتنقية ثوب الأردن وصد سهام الاتهام عن صدره، انزلقت السردية إلى حالة “المظلومية”، حيث ينتفض الخطاب وينقض على الآخر الفعلي أو المتوهَّم ليقتص من اعتدائه على تاريخه وسرديته. لقد وقعنا في النزاع حول السردية أكثر مما انشغلنا في استنباط وتأسيس هذه السردية.
نعم، الحقيقة المُرّة أن الأردن الرسمي والثقافي والتعليمي لم يعمل على تقديم سرديته الذاتية الموضوعية، وقد نفهم أنه انشغل بالدفاع نفسه، فإن العداء الذي ناصبه البعث عمومًا، وعبد الناصر خصوصًا، للأردن، ليس بالأمر الهيّن، وقد كان لهجوم عبد الناصر مثلًا على الأردن وعلى المرحوم الملك الحسين أثر فاعل في تشكيل الرأي العام حول الأردن وسرديته الوطنية. كما أن الصمت الذي مارسه الأردن في توضيح وتفسير الأحداث التي واكبت تأسيس الأردن ساهم بشكل كبير في ترجيح سردية ظالمة عن الأردن وشعبه – وقد يكون لنا عودة للكلام في هذا الأمر– ولكن كإشارة عابرة، فإن عبد الناصر – وهذه ليست خيانة– كان يتواصل مع الكيان عبر السفارة المصرية في لندن. الاجتماع بالأعداء نمط سياسي معروف منذ القدم.
في التأسيس والتطوير، هنالك محطات أغفلها الوعي السياسي والفكري الأردني، أو لنقل استُبدلت بخطاب إنشائي غير عميق. أسمي المحطة الأولى “المحطة الثورية الهاشمية الأردنية”، وهي لحظة لقاء الأمير الثائر العربي الهاشمي، الذي حلم وعمل، هو وعائلته، لإنشاء دولة عربية مستقلة عصرية مدنية – انظر دستور الدولة السورية 1921– مع الشعب الأردني ومواقفه الثورية ضد الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني، – انظر نتائج مؤتمرات الاردنيين الشعبية في جميع انحاء الاردن–. تلاقت هذه المواقف في ثوريتها وفي قوميتها، في حلم لتأسيس دولة عربية معاصرة في منطقة الهلال الخصيب. هذه اللحظة القومية المدنية الثورية محطة فارقة في فهم الحمولة الثورية للسردية الأردنية، التي لا تقل، في نظري، أهمية عن مشروع عبد الناصر في إنشاء دولة قومية غير منحازة مستقلة عن قوى الاستعمار آنذاك.
المحطة الثانية هي الأوراق النقاشية للملك عبد الله الثاني. هذه الأوراق هي محاور مدنية عصرية للدولة الأردنية، وهي أيضًا بذرة مشروع يقوده الأردن نحو تحقيق شكل جديد للدولة العربية المستقلة، قد تكون مختلفًة نوعا ما عن مشروع الدولة السورية في الهلال الخصيب ولكنها تحمل ذات روحها، حيث يبدأ هذا المشروع من دولة أردنية مدنية وعصرنة وديمقراطية، ثم يقود حالة وحدة عربية تضمن استقلال الإرادة العربية عن مخططات ومصالح الاستعمار والمشروع الصهيوني في المنطقة.
إن اللحظة الأردنية الهاشمية الثورية وتجليها المعاصر في رؤية الأوراق النقاشية، تعبير صادق أصيل عن الهوية الأردنية التي تبلورت عبر تنوّعها وروافدها، لا تذويبا لهوية الشعب الأردني، بل لتكون شاهدًا على جذر ثوري مدني أصيل واثقا لهذه الهوية، مؤهل لقيادة مشروع عربي لدول عربية تقوم على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وللحديث بقية، جنابك.