عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    06-Feb-2025

مجبر أخاك لا بطل*د. رشا سلامة

 الغد

قد يخال البعض أنّ إجابة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كانت عفوية، حين سُئل وهو راحل عن بيروت في العام 1982 «الآن إلى أين؟»، فقال «إلى فلسطين».
بيد أنّ الأمر لم يكن كذلك؛ إذ كانت مرحلة المكوث في تونس انتقالية نحو حل سلمي يُطبَخ، تقوم بموجبه دولة فوق فلسطين المحتلة في العام 1967.
 
 
وحسبنا في هذه النقطة تحديداً؛ أن نستذكر الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بو رقيبة، الذي استضاف منظمة التحرير الفلسطينية عند خروجها من لبنان، بدافع القومية العربية أولاً، ولكون تونس هي مقرّ جامعة الدول العربية آنذاك، ولضغط زوجة بو رقيبة، وسيلة بنت عمار، لكنّ تلك الإقامة كانت مشروطة إلى حدّ يشي بحجم نزعة التفكير التي تغلب على العاطفة والانفعال، ولعلّ هذه سمة رئيسة في الفكر التونسي.
بالعودة إلى شروط الإقامة في تونس، يتضح أنّ بو رقيبة كان على قيد الحذر والحسم؛ إذ إنّه في وقت أعلن فيه وزير خارجيته آنذاك الباجي قائد السبسي أنّ بو رقيبة قرّر الاستضافة دون أن يعود إليه، سوى للإخطار؛ فإن شروطاً من قبيل عدم عسكرة الوجود الفلسطيني كانت حاسمة، وحتى حين حلّت القيادة الفلسطينية على «فندق سلوى»؛ فإنّ سيارات منع الشغب كانت تتأهب على باب الفندق، بذريعة الحماية، وكانت المعسكرات بعيدة عن العاصمة التونسية، ولا استعراضات عسكرية مسموحة، مثلما كان الباب مفتوحاً على مصراعيه في بيروت، وشروط أخرى لا يتسع المقام لذكرها، لكنّها تعكس تفاصيل عقلية بو رقيبة ومنطقه في إدارة الأمور.
 
 
والشيء بالشيء يذكر؛ حين أُبلِغَ بو رقيبة ذات يوم بأنّ الفلسطينيين باتوا يتسببون بأضرار للسياحة، لا سيما عقب حادثة حمّام الشطّ، فما كان منه سوى أن استشاط غضباً، وكاد يهمّ بترحيلهم، حتى هاتفت وسيلة بنت عمار، صلاح خلف «أبو إياد»، طالبة منه تدارك الموقف.
وما كان بو رقيبة ليعدُل عن قراره لولا أنه خشي أن يسجلّ الرئيس الليبي آنذاك القذافي موقفاً عليه، وأن يتخذ من خلخلة الأوضاع ذريعة للإفتاء في الشأن التونسي.
أي أن تونس فتحت ذراعيها لاستقبال قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، دونما تردّ، كما هرعت زوجة الرئيس وسيلة بنت عمّار بنفسها لاستقبال المقاتلين والجرحى والقيادات أثناء وصولهم تباعاً؛ تشدّ من أزرهم وتعدهم بالنصر القريب والاستقلال كما تونس والجزائر، بيد أنّ اشتراطات تونس كانت واضحة في هذا السياق؛ إذ تم استقبال القيادات وعائلاتهم في مناطق فارهة مثل سيدي بو سعيد، لكن القوى المسلّحة الفلسطينية التي لم يتجاوز عددها في تونس 970 مقاتلاً، فقد اشترِطت إقامتها في مناطق بعيدة عن مراكز السكن والتجمّع، منها حمام الشط.
أما لماذا دُشّن خيار السلام رسمياً وعلى مرأى الجماهير منذ مباحثات مدريد وما تمخّض عنها في أوسلو، فإنّ ثمة عوامل عدة قد تكون أفضت لهذا، من بينها وقف الكفاح المسلح بمجرد مغادرة بيروت؛ إذ اشترطت القوات الدولية تسليم المقاتلين الفلسطينيين أسلحتهم قبيل خروجهم على ظهر الناقلة اليونانية وغيرها، بالإضافة لتشتيت شمل المقاتلين الفلسطينيين؛ إذ جَرَت بعثرتهم كالتالي، وفقاً لوزارة الخارجية الأميركية:
 
 
970 مقاتلاً إلى تونس، و261 إلى الأردن، و136 إلى العراق، و1093 مقاتل إلى اليمن الجنوبية، و841 إلى اليمن الشمالي، و448 إلى السودان، و588 إلى الجزائر، و3900 إلى سوريا.
لذا، فقد كانت القيادة الفلسطينية في موقف لا تحسد عليه: البُعد الجغرافي عن فلسطين بات كبيراً هذه المرة، كما رُفِعَت يدها قسراً عن أي نشاط مسلّح منذ الخروج من بيروت، بالإضافة إلى عامل حرب الخليج الذي استجدّ لاحقاً؛ إذ اندلعت الحرب خلال 1991- 1990، لتراهن القيادة الفلسطينية على الحصان الخاسر: صدام حسين، ما أفضى لاحقاً لتجاهلها وتهميشها عربياً، بالإضافة لإيقاف ضخّ التمويل الخليجي الذي كانت تحظى به المنظمة بشكل شبه ثابت، عدا عن ترحيل ما يقارب نصف مليون فلسطيني من الكويت.
ثمة مخرج عفوي ظَهَر في تلك الحقبة، كان الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت شرارتها في العام 1987، حيث كانت هبّة شعبية شاركت فيها أطياف الشعب الفلسطيني برمّتها، بيد أنّ القيادة الفلسطينية حاولت استثمارها لاحقاً لإحراز تقدم سياسي لصالح الفلسطينيين، وكان الشهيد خليل الوزير «أبو جهاد»، على رأس من عكفوا على هندسة الانتفاضة وتنظيم عملياتها، ما أفضى لاغتياله لاحقاً في العام 1988، على إثر عملية مفاعل ديمونا التي خطّط لها.
لم يطل المقام بالفلسطينيين كثيراً بعد اندلاع انتفاضتهم حتى بادر الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش بطروحات ترفد العملية السلمية المزمعة؛ إذ دُشّنت مباحثات مدريد في نوفمبر 1991، ليترأس الدكتور حيدر عبد الشافي الوفد الفلسطيني في تلك المباحثات، التي أفضت لاحقاً لإبرام اتفاقية أوسلو.
وبرغم تخوّف عرفات من اعتبار نجوم مباحثات مدريد: الدكتورة حنان عشراوي والدكتور حيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني، قيادة بديلة عن المنظمة، فإنّ الخطاب السياسي الذي وَسَمَ تلك المباحثات كان يعبر عن رؤى رأس المنظمة ياسر عرفات وتوجّهاته، بل هو لم يخرج قيد أنملة عن المظلة العرفاتية.
يقول القيادي الراحل في الجبهة الديموقراطية ممدوح نوفل عن كتابة الوفد الفلسطيني الخطاب الرسمي في مباحثات مدريد «الخطاب الذي ألقاه حيدر عبد الشافي كتبته حنان عشراوي وساهم فيه ممدوح نوفل ونبيل شعث وأكرم هنية ولكن في الأخير أُرسِل الخطاب لتونس وبقينا ننتظر حتى الخامسة صباحاً حتى جاءت (على بركة الله) بخط عرفات مع تصحيحات».
لاحقا، باغتيال أبو إياد وأبو جهاد، ترنّحت المنظمة أيّما ترنّح؛ إذ كان الأول دماغ المنظمة وصائغ خطابها وتوجّهاتها لا سيما ما يتعلق بشقّ التعامل مع الأنظمة العربية، فيما الثاني كان العقل المدبّر للعمليات التي تتبنّاها المنظمة، المخفية منها والمُعلَنة.
منذ احتلال فلسطين في العام 1948 والشعب الفلسطيني يعيش، كما يقول المثل الفلاحي، «من تحت الدلف لتحت المزراب».. لقد اجتهد الفلسطينيون كما لم يفعل أحد، لكن لم يحدث أن أنصفتهم الأقدار.