عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    28-Dec-2021

سلامة يكتب: نص هارب من (اليومي) .. في الإصلاح الديني
عمون - 
أحمد سلامة
 
"فالانغماس باليومي، يفقد النص القدرة على النظر البعيد ويصير جزءا من الراهن ..."
 
أحب أن أبدا بهذا الاقتباس وأنسبه لمهدي عامل، مغترفا من الذاكرة دون توثيق لأُحصن النفس من الانزلاق في التفكير اليومي الدائر وطنيا (أزمة الهوية، مخرجات اللجنة، إشكالات الحكومة، حوارات التعديلات الدستورية، انتفاضة الرؤساء).
 
أحب أن أرى شيئا من فوق ما هو راهن. وعلى مدار أسابيع ثلاثة، راجعت مرجعين اثنين لُذْت بهما، وداهمني (نصّان) سرّعا في إنضاج ما سأكتبه في عدة مقالات ربما..
 
عدت فقرأت كتاب الصادق النيهوم رحمه الله "الإسلام في الأسر: من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟". كذلك رجعت إلى كتاب شيخي وإمامي العالم الفقيه سيد الأزهر الشريف سيدي الإمام أحمد الطيب، أطال الله في عمره "النظرات في فكر الإمام الأشعري".
 
أما النص الأول الذي داهمني، فقد قرأته في (عمّون) لكاتبة أردنية، الأستاذة صباح الحراحشة، في مسألة التنوير، وقد أبدت فيه رأيا حاسما بالانحياز لصالح الحداثة والتنوير إسلاميا. ووجدت فيه أيضاً جسارة المستنيرة فيما يخص مسألة الفنان الذي عصم نفسه بفضيلة التوبة فانصرف عن الغناء. أما النص الثاني، فقد انتشر على نطاق واسع وهو خطاب لسماحة الشيخ السيد البشبيشي، يتناول فيه ذات الموضوع من زاوية مغايرة، ويتضمن موقفه تحريما وتجريما لكل طرب ولكل فن.
 
والحق، أنني أُهوِّم وأُحوِّم حول فكرة الإصلاح منذ حين، ولم يسعفني وعيي سوى أن أحصر رأيي في أمر الحاجة للإصلاح تحت باب الاصلاح الديني.
 
وجاءت هذه العناصر الأربعة مُسَرّعَة لما سأورده من رأي في هذا المقام. فأقول:
 
أولا:
منذ قانون المشروطية العثماني الأول والعمل بدستور ١٨٧٦، دخلت المِلّة العثمانية وأمة العرب في شقها الآسيوي مرحلة القبول لشروط الغرب الأوروبي (ألماني مرة، وفرنسي مرة، وبريطاني مرة أخرى) في التحديث والتطوير، حيث بدأ التمويل الأجنبي والتدخل الأجنبي والفكر الأجنبي إذّاك كرغبة عربية عارمة في سوريا ولبنان وفلسطين عبر مدارس التبشير والإرساليات.
 
إن مفكرا مثل نجيب عازوري، صاحب كتاب يقظة الأمة العربية والذي شغل المشرق العربي بفكره ويقال إنه هو من كان وراء انعقاد مؤتمر باريس الأول للشباب العرب سنة 1913، لم يتردد في إشهار ولائه العلني للفكر الغربي تحديدا الفرنسي، حين باشرت فكرة الاستقلال بالصعود من تحت مطلب (اللامركزية).
 
ما قصدت أن أقوله في هذا البند هو أن شوقا عارما منذ القرن التاسع عشر قد ساد طليعة العرب المشارقة في التقرب من الفكر الأوروبي وإنشاء الدولة الحديثة على نمط أوروبي صرف.
 
وإن ما نراه اليوم من الحاح على (الأوربة) مرة، وعلى (الأمركة) مرة، ومناهضة لهما إسلاميا مرة أخرى، هو صدام حضاري أضحى أطول عمرا من الشعوبية التي أودت بالحضارة العباسية ولم تأت بنتيجة بديلة.
 
ثانيا:
في ظني أن المجتمعات العربية المشرقية ذات الإرث الإسلامي السني قد تعرضت إلى أزمة فكرية كبيرة، منذ تصديها للغزوة الصليبية الأولى. ولقد دفع التعصب الصليبي الخشن وما واجهته الأمة في مذبحة معرة النعمان، والإهانة المتغطرسة الفائضة عن ضرورة الاستعمار، وإملاء صورة استعبادية على القدس الشريف في القانون الصليبي (القدس الكبرى)، ومذبحة حصار طرابلس.. كل ذلك وغيره قد سرّع وأدى إلى انشداد الفكر العربي الإسلامي المرن لصورة من التطرف بلغت أوجها في فكر أحمد بن تيمية الشآمي السلفي المتشدد رحمه الله، والإطاحة ببذور التصوف الحنون الذي نما في زوايا وتكايا بلاد الشام كلها، ملبية نداء الحب الديني عند الشيخ محي الدين ابن عربي، ومستجيبة لفلسفة الحب الإلهي لدى الجُنيد.
 
كان الغرب الأوروبي هو المسؤول عن دفع دعاة الأمة ومفكريها إلى هذا الانسداد والتضييق على مناحي الفكر الإسلامي.
 
ثالثا:
ما بين الحروب الصليبية قبل قرابة الألف عام ودحر الوجود الأندلسي المستنير للعرب في أوروبا على يدي المتعصبين من الطرفين (تجربة يوسف بن تاشفين المنغلقة، والعداء الديني المتعصب لفيرديناند وايزابيلا الثنائي الإسباني المتغطرس الذي جعل من الدين هوية للاستئصال الحضاري بدون سبب)، وحتى الغزوة الأوروبية التي باشرت الاستفادة من دخول العثمانيين مرحلة النزع والاحتضار الامبراطوري وباشرت اقتطاع أجزاء الأمة واحدا واحدا (الجزائر ١٨٣٠ تلتها تونس، مصر ١٨٨٢ تلتها السودان، ليبيا ١٩١١، قصف بيروت 1912، فلسطين ولبنان وسوريا مطلع القرن العشرين)، فرغم كل ذلك ظلت مجموعة عربية طليعية ترى في التجربة الأوروبية والحضارة الأوروبية والتجاور الأوروبي الحنون، الملاذ للعرب ومخرجا لهم. وليس غريبا أن العديد من المفكرين الفلسطينين يجدون أعذارا لبريطانيا في فعلها غير الإنساني للذي جرى في فلسطين.
 
أُنهي في هذا البند بالقول: إن رغبة فكرية لطليعة واسعة في المشرق العربي ترى أن لا فكاك عن التبعية للغرب الأوروبي كمخرج في الاقتصاد والسياسة والتدين والتحديث والأحزاب والديموقراطية... إلخ. إن أوروبا، وبرغم تفوق أمريكا في مجالات السلاح والفضاء، هي صحن البشرية الحضاري ومرادها وأملها.
 
رابعا:
وبصورة عجلى أبادر للقول إنني لست من هولاء المؤمنين بالتبعية الأوروبية تبعية إيمان العجائز. ولست من المعادين لتفوقها وإبداعها الحضاري عداء سلفيا لاهوتيا في تطويع للنصوص.
 
تظهر أمتنا، ونحن في الأردن في القلب منها الآن، وكأننا نناصب الغرب العداء دينيا! فليس في ديننا شوائب من هذا التوجه، كما أراه من وجهة نظري.
 
والآن ثمة فسطاطان، أو معسكران أو اتجاهان يتنازعان المواجهة في المشرق العربي. الأول، اتجاه سلفي ظاهري يرى في الدين حماية ومخرجا مقاوما لهذا التجريف العصري العاصف القاصف لحضارة الغرب في رؤوسنا ومن داخل أدمغتنا. وإن جذور هذا التشدد في بعض وجوهه متوفر عندنا، فقد تسلل الفكر الداعشي وهو المسؤول والمدان تاريخيا عن اغتيال ناهض حتر رحمه الله إلى عتبات قصر العدل في بلادنا، ولا نستطيع تجاهل أثره. والسلفية الوهابية، رغم ما ألحق بها من تصويبات برَّدت سطوتها في بلد المنشأ (الدرعية)، إلا أن تيارا جارفا له حضوره في مجتمعنا ينتسب ويباهي بسلفيته على نحو وهّابي. والإخوان المسلمون القوة الضاربة للفكر الدعوي، لهم حضورهم البهي والذي أسهم الغرب ذاته في دعمه ومؤازرته لشدة بريق دعوته الإصلاحية التي تناغي فكرة الغرب في ضرورة الإصلاح!
 
وثمة إضافات دينية موجودة في مجتمعنا (تصوف، أحباش، حزب تحرير) إلى آخره. لكن أزعم أن أهم حزب إسلامي لم يزل بين أيدينا هو حزب المنبر وخطبة الجمعة. هذا الحزب يفوق عددا وقوة وسحرا كل ما سواه، إن حسُن تنظيمه وتعبئته.
 
وفي المقابل يوجد فسطاط ثان، فالمناخ العام في بلد مثل بلادنا مفتوح على كل شيء. يتوافر عندنا دعاة حزب الخضر، وقوة التمثيل لحزب التمويل الأجنبي الذي أضحى منذ حكومة دولة الدكتور عمر الرزاز لهم تمثيل شرعي ثابت في الحكومة، وهناك حزب المجتمع المدني، وأيضا دعاة الحضارة الأوروبية الصرفة (الاوربة) وحزب أبناء الحراثين، والهوية الوطنية الجامعة أو غير الجامعة، والقوى التقليدية. فكل ذلك وغيره يقف في صف يتعارض مع الأسلمة المطلقة مثلما يقف أصحاب الدعوة الإسلامية المحافظة في وجه الأوروبة.
 
خامسا:
في كل هذا البحر المتلاطم من التداخلات أنهت دولة الأمة الأردنية في صورتها الهاشمية أول ١٠٠ سنة من عمرها المديد. وهذا نصر كاسح لفكر الأمة الوحدوي المتدين إسلاميا على مذهب (الهاشمية الحسنية الحنفية المرنة المتحضرة).
 
إن نظرة واقعية في التحليل لواقع المشرق العربي، بامتداده حتى مصر الغالية الشقيقة الشريكة في الدم واللغة والحروب، يرشدنا إلى أن كل التجارب التي مرت علينا قريبة من هنا أو بعيدة وحتى البعيدة كثيرا قد تقلبت وتبدلت وترنحت واختفت وظهرت واستبدت واضطهدت، إلا تجربة الحكم الهاشمي العبدلي (أعني فرع عبدالله ابن الحسين رحمه الله من ذرية كبير الأمة الحسين بن علي رضي الله عنه). استطاعت العبدلية الهاشمية ليس فقط تجديد الصيرورة بالأسماء وحسب، بل وبالزمن الهاشمي الأردني العربي.
 
كيف سنلج إلى ١٠٠ سنة أخرى ونتمكن من لملمة الأضداد (بحيث يقبل العيش من تحت المظلة الهاشمية الديموقراطي الحزبي، وممثل التمويل الأجنبي، والأخ المسلم، والسلفي).
 
البعض يقول: نحتاج الى عقد اجتماعي جديد! وآخرون قالوا: إن إصلاحات سياسية تبدأ بالأحزاب وتعديلات في الدستور قد تفضي بعد عدة سنوات إلى حكومة حزبية.
 
والسؤال هو: ما الذي سنفعله بحالنا في هذه العشر سنوات حتى ندرك المراد؟ آخذين بعين الاعتبار أن غيرنا يعمل كما نحاول أن نعمل. فالإخوان يعملون، والتمويل الأجنبي يعمل. ونحن ماذا سنعمل؟!
 
الخلاصة، أظن، وإن بعض الظن حق مكفول بشرطي الولاء للوطن وحسن النية، أن الدولة الأردنية الهاشمية العربية لم تزل قادرة على العثور على حل لمأزق الإصلاح. ومن دون تردد أدعي أن الإصلاح فينا يجب أن يكون دينيا أولا. الاصلاح الديني هو الذي انتشل أوروبا رمز التحضر من قاع جريمة الاستيلاء على العقل إلى إطلاقه لآخر مدى. الإصلاح الديني هو الذي صوّب وضع أوروبا بعد أن ترجم مارتن لوثر الإنجيل ودفع بها لإيجاد العلوم النافعة والدولة الحديثة والديموقراطية التي تناسبها في معركة التوازن بين صاحب العمل والعمال.
 
إن نمط الحزبية الدينية غير البرامجية لا يلبي مشروعنا الوطني. وقد يفضي الفراغ أو التسرع في مشرقنا العربي
 
بعد تجربة بريمر في العراق (الديموقراطية الأمريكية) والضغط على التجربة الفلسطينية إلى أحزاب بخلفية دينية صرفة تفتت ولا توحد تباعد ولا تقرب وتهدم ولا تبني.
 
نحن في الأردن ليس لدينا خلفيات مذهبية، لكن الخوف إن رحنا صوب التحزب غير البرامجي على المستوى الوطني وقبل إعداد أنفسنا أن ينقلب إلى تنافس ديني بين متشدد ومتشدد جدا. هذا هو مستقبل الأحزاب كما جرى في فلسطين (حماس والجهاد الإسلامي) وفي لبنان (حزب الله وأمل) وفي العراق (المالكي والصدر والحكيم)، ما لم نستطع تفعيل حزب هو حزب المنبر وخطبة الجمعة، وأن ندرب الناس في المسجد والوعاظ قبلهم لاسترداد قيمة الحوار الحضاري بين إمرأة وعمربن الخطاب وقبول عمر برأيها. ما لم يسترد المنبر قدرته على ضبط نظافة المدن، ونشر ثقافة التعاون في الحي، والإعلاء من شان الزكاة بمعنى التكافل، وأن تكون خطبة الجمعة من مختصين ساسة خبراء مياه أساتذة فن شطار تاريخ خبراء تطوير حضري. إن تدريب الناس في المنبر المراد منه الجمع بين الحاضنة الدينية ومتطلبات الحياة العصرية.
 
ما لم نقوي حزب المنبر بحيث يكون أقوى من حزب الشارع ويعاود نشر الفضائل والقيم وأن يكون برلمانا أسبوعيا تجتمع فيه الأمة الاردنية على مناقشة حياتها وبرامجها كتجهيز للحزب الأكبر الذي يتواجد فيه المُتأورب والمتأخون والسلفي والخدمي كلهم، يجمعهم الوعي بمعنى الوطنية والمعرفة باحتياجات الوطن.
 
نحن نحتاج إلى حركة نهضوية ثانية. كثيرون من شراح حركة الشريف الحسين بن علي سنة ١٩١٦ يقعون في خطاء منهجي ومعرفي. فذلك الشريف الإصلاحي النبيل لم يرم ثورة ضد الترك أبدا، لقد نهض بأعباء مشروع النهضة العربية، وما ورثته الدولة الهاشمية في الأردن هو إرث النهضة وليس فقط متممات الثورة العربية الكبرى. لقد كانت الثورة إحدى أدوات النهضة، لكن الدول الهاشمية كانت تطبيقات النهضة، والأردن الهاشمي هو من أكمل النهضة وصمد ليكون على أبواب مئويتها الثانية.
 
إن الاصلاح الاقتصادي ضرورة، والديموقراطية ضرورة، والإصلاح السياسي حاجة، وإعادة إحياء علوم الإدارة النزيهة في الدولة واجب وطني. لكن، قبل كل هذا وما سيأتي به على نحو مفضول هو الاصلاح الديني. الإصلاح الديني الذي ننشده هو الذي يعرف الهوية عبر الإسلام والعروبة، ويعرف المديونية عبر اقتصاد وطني، ويعرف العلاقة بين المواطن والحاكم تأسيسا على شرعية (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية)، والإصلاح الديني لا بد أن يشمل وبوضوح وحسم فكرة المساواة المطلقة اعتمادا على المواطنة وليس انحيازا لدين أو مذهب أو طائفة أو جغرافيا.
 
إن الصلة والتعلق بين الهاشمية والأقصى تفتح الباب لصناعة رواق فقهي دافئ دافق ومرن ومنتج وحضاري. ووجود فقهاء هاشميين يتصفون بالوعي والتقدم والنورانية مثل شخصية الأمير الهاشمي (غازي بن محمد) ويظلله هالة حضارية عصرية تجمع بمرونة بين الإسلام وروح أوروبا المتحضرة مثل شخصية الملك (عبدالله)، ووجود حكماء في التيار الإسلامي روحهم تقدمية ويتسمون بالوطنية والنبل مثل بسام العموش ومدالله الطراونة وعبدالرحيم العكور والشيخ حمزة منصور، بالإضافة إلى مفكرين أردنيين تقدميين مثل مصطفى حمارنة وجواد العناني وصبري ربيحات ورومان حداد ومحمد أبو رمان وبسام حدادين وحسن البراري ومهند مبيضين وشاكر العاروري ونبيل العتوم ومروان المعشر ومصون شقير وسوسن المجالي (وهذه مجرد نماذج) يسهم في بلورة تفكير يعمل على إعادة تموضع المجتمع الأردني على أسس جديدة عابرة لمفاهيم الاختلاف وجامعة للفوارق، ومصممة على العبور إلى فناء المئوية الثانية عبر إصلاح ديني كبير، يفضي إلى إصلاح كل ذات البين.
 
ويبقى القول إن مبرر الكتابة في هذا الباب واجب.