عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    08-Apr-2024

قمران وسبعة اهلّة أضاءت ليل غزة| عيسى الشعيبي
سويال ميديا
 
 عيسى الشعيبي
 
في بداية الشهر السابع، منذ 185يوماً وليلة (4444ساعة) من حرب اطبقت فيها السماء على الارض، وبدت للأمهات والآباء كأنها الدهر، لم يعبر سماء غزة المدلهم سوى الطائرات المغيرة صبحاً، القاصفات على مدار الوقت، ولم ينر سديمها المستباح، غير وهج الصواريخ الذكية والقنابل الغبية المتساقطة على البيوت المكتظة بالبنات والأولاد، وغيرهم من صنف "الحيوانات البشرية" الضارية، كما لم يزرها اخ كريم في الجوار، ولم تمرّ فوق نقيع دمها الا المركبات الحربية وعربات المدفعية الثقيلة، وأصحاب الخوذات المدججين بالبنادق الاوتوماتيكية وشهوة الانتقام والاحقاد التاريخية.
 
في غمرة الظلام الدامس والخذلان والموت الزؤام، أي في خضم حرب الإبادة الجماعية، سطع في سماء غزة، وعلى حين غرة، قمران ازرقان وسبع اهلّة بيضاء، تلألأت كأنها الدر، وتراصفت الى جانب فيض من شهب وكواكب ونجوم بلا حصر، لإشعال فتيل سراج هنا وايقاد شمعة صغيرة هناك، كانت، على ضآلة التماعاها، كافية لتبديد بعض من ظلام ليل غزة النازف البارد اللزج الثقيل البطيء، وبعث شيء من الامل القليل في نفوس رهط عدّائين أقوياء، كاد ان يتعبهم طول الركض بلا طائل في ممر المارثون.
 
اول القمرين الازرقين المكتملين كان قمر أنطونيو غوتيرش، امين عام الأمم المتحدة، الدبلوماسي البرتغالي الطيب النبيل، الذي اطل على ركام غزة من معبر رفح الحدودي مرتين، او قل طلع علينا بدراً تاماً جميلاً كبيراً كبر قمر الحصادين في موسم جمع سنابل الحنطة في فلسطين، فبدا لنا الأمين العام، وهو يعلن عن صيامه التضامني مع الجائعين، رجلاً سيداً ذا سلطة ضميرية بيضاء من غير سوء، اميناً حقاً، موظفاً سامياً متفرداً في المقام الاممي الارفع، قياساً بسابقيه.
 
القمر الثاني كان قمر فرنشيسكا البانيز المقررة الخاصة بحقوق الانسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قمر علا في السماء الغزية الثانية، على هيئة سيدة ايطالية جميلة عظيمة شجاعة، لا تخشى التخويف، وترفض الاسكات، حيث قدمت للمنظمة الدولية تقريراً كاملاً متكاملاً عما توصلت اليه تحقيقاتها المهنية، من وقائع جرمية وجرائم وحشية قارفها الاحتلال في القطاع المدمر، فبدت لنا هذه الباحثة الحقوقية ذائعة الصيت في جامعة جورج تاون الأميركية، صاحبة سلطة ضميرية يقظة، قلّ نظيرها في المؤسسات الاممية.
 
اما الاهلّة السبعة البيضاء، او قل أصحاب الأرواح السبعة، المسكونة بمشاعر انسانية خالصة من كل شائبة او انانية، فهم هؤلاء المتطوعون من وراء البحار، من منظمة المطبخ المركزي العالمي، ممن اغتالتهم قوات الاحتلال بدم بارد، وبتصميم ظاهر، لتفعيل حرب التجويع المعتمدة، سلاحاً جهنًمياً ذميماً، او قل سلاحاً قرسطويا مرذولاً من أسلحة حرب الإبادة الجماعية، فطفق دمهم البريء على وجوه القتلة، حاصرهم من حيث لا يحتسبون، جردهم من كل زعم عن الجيش الأكثر اخلاقية، ونزع خربهم كل ما تبقى لها من شرعية مزعومة.
 
في زيارة غوتيرش الثانية الى رفح، طافت في دواخل الكثيرين بيننا مشاعر الامتنان الصامت حيال السيد الاممي الأول، وغمرنا في الوقت ذاته حس بالغ بالحرج، ان لم نقل الخجل والتواري، ونحن نستمع بحياء من انفسنا، الى كلمة الأمين العام المتوسلة، ونتلمس فيها حرارة النبرة التضامنية، وهو يلحّ على وقف اطلاق النار ورفع الحصار، فيما كانت دولة الاحتلال ترميه بالاتهامات وتطالبه بالاستقالة، وسط صمت مطبق، حيث لم يرتفع الى جانبه صوت عربي مؤازر، او يشد على يديه اعلام مناصر، او يثني على مواقفه مثقف او كاتب.
 
ذهبت مطالبات غوتيرش برفع الحصار ادراج الرياح، كما مرّ بيان المقررة الخاصة فرنشيسكا البانيز مرور الكرام ايضاً، شأنها شأن غيرها من رؤساء المنظمات الدولية، غير ان دماء عمال الإغاثة السبعة من المطبخ المركزي العالمي، فاءت على غزة فجأة، واضاءت ليلها الطويل دفعة واحدة، فكانت بتداعياتها الهائلة بمثابة النقطة التي افاضت الكأس، صنعت التحوّل الذي طال انتظاره، وربما احدثت الفرق، وكتبت السطر الأول في دفتر الهزيمة الاستراتيجية لدولة تتعبد في محراب القوة، لمجتمع انفجرت كل تناقضاته الداخلية وراح يتفكك، ولجيش فشل على مدى ستة اشهر في تحقيق أهدافه المعلنة.
 
وهكذا اوقعت هذه الواقعة الاستثنائية، احفاد يوشع بن نون في سياق تصادمي لا راد له مع الاغيار، واوجدت دينامية تعمّق العزلة والكراهية والنبذ، وفوق ذلك رسمت خطاً فاصلاً بين زمنين من عمر المذبحة، وقلبت الصفحة، ان لم نقل قلبت الطاولة على رؤوس القتلة، بدليل انها صدمت الجميع، بمن فيهم الصهيوني الكبير في البيت الأبيض، فقد ضيّقت عليه هامش المناورة، وحملته حملاً على القول "كفى" بعد ان صمت طويلاً على جرائم ربيبته المدللة.