الغد
أنهى وقف لإطلاق النار الحرب القصيرة– وإنما الكثيفة- التي شنها الكيان والأميركان على إيران. وعلى الفور اندلع صراع السرديات حين سارع الطرفان إلى إعلان النصر، كل حسب منظوره ومعاييره. ولا تعكس هذه الإعلانات بالضرورة حقيقة ما جرى بسبب الطريقة الحديثة لخوض الحروب. لم يعد الأمر يتعلق بالاستيلاء على الأرض أو فرض الاستسلام الكامل. وفي حرب غير متكافئة بوضوح لم يتم حسمها عسكريًا، يتصل النصر والهزيمة أكثر بالحاجات السياسية والنفسية للأطراف.
استند الكيان الاستعماري الصهيوني في إعلانه النصر إلى نجاحه في استهداف مواقع نووية إيرانية رئيسية، فوردو وناتانز وأصفهان، وقدّم رئيس وزرائه هذه الضربات بوصفها «ضربة ساحقة لقدرات إيران النووية». وأكد أن كيانه يستطيع –بالدعم الأميركي الواضح واللامحدود الذي يتجنب الإشارة إليه- ضرب خصومه في العمق حين يشعر بتهديد وجودي. ووظّف الخطاب الداخلي للكيان هذا الإنجاز باعتباره تأكيدًا على تفوق مؤسسته العسكرية قدرة قيادته السياسية على اتخاذ قرارات حاسمة.
في المقابل، لم تعتمد القراءة الإيرانية للحدث على المقارنة النارية أو نتائج المعارك الميدانية، وإنما على مبدأ البقاء والصمود، كما يحدث في كل مواجهة غير متكافئة. في مواجهة قوة إقليمية متفوقة مسنودة بأقوى قوة عسكرية في العالم، لم تُهزم إيران، بحسب الإيرانيين: لم تنهر مؤسساتها، ولم تُنهك قياداتها، ولم تُجبر على تغيير مواقفها الجذرية. وقد ردّت على الكيان بضربات صاروخية أوجعته وخلفت مشاهد دمار لم يشهدها الكيان منذ نشأته. وفوق ذلك ردت، ولو بشكل محدود ومحسوب، بصواريخ استهدفت قاعدة الأميركيين في قطر، في ما بدا رسالة مزدوجة: تأكيد القدرة على الرد، وتجنّب التصعيد إلى مواجهة شاملة. وقد أتاحت هذه المعادلة لإيران إعلان النصر، ليس لأن قوتها تفوقت على العدو، وإنما لأنها اجتازت اختبار حرب من هذا النوع من دون أن تنكسر.
هكذا يصبح «النصر» مفهومًا مركّبًا. من جهته، كسب الكيان نقاطًا تكتيكية، لكنه لم يفلح في كسر إيران أو ردعها مرة واحدة وإلى الأبد. وعلى الجهة الأخرى، ثبتت إيران مكانتها كفاعل إقليمي عصيّ على الإخضاع النهائي، واستفادت من لحظة التلاحم الداخلي والشعور الوطني العام في شكل مظاهرات الدعم الواسعة التي اعتُبرت تعبيرًا عن وحدة الجبهة الداخلية في مواجهة خطر خارجي وجودي.
ربما يكون الأكثر تعقيدًا من إعلانات النصر هو ما أفرزته الحرب من تحوّلات رمزية في الإقليم. بشكل خاص، راج سؤال حاسم في المنطقة العربية على المستوى الشعبي: هل أنت مع إيران أم مع «إسرائيل»؟ وبدا من ملاحظة الاستجابات أنه على الرغم من استدعاء كل ما يمكن استدعاؤه من أضرار ربما ألحقتها إيران في العالم العربي، فإن عدوان الكيان وأميركا عليها جلب لها قدرًا من التعاطف الشعبي العربي. بدل أن يُنظر إليها كتهديد طائفي، نظر إليها كثيرون كدولة مسلمة في نهاية المطاف، وجارة تاريخية تتعرض للعدوان بسبب معارضتها الكيان المحتل والهيمنة الأميركية، وهو ما أحدث شرخًا في الروايات التي سعت إلى عزلها شعبيًا على مستوى الإقليم، وأعاد الاعتبار إلى معيار الموقف من فلسطين كمرجعية لا يمكن التحايل عليها في الوعي الجمعي العربي.
بتجاوز اللحظة والتداعيات المباشرة، سلطت الحرب الضوء مرة أخرى على الفرق البنيوي بين الكيان الصهيوني والدولة/ الأمة الإيرانية. ما يزال الكيان، حتى بما يملكه من تفوق عسكري وتقني، كيانًا استيطانيًا استعماريًا مُقحمًا على الجغرافيا والتاريخ، يفتقر إلى الرسوخ التاريخي أو العمق الجغرافي والاجتماعي في المنطقة. وهو يعيش على الدعم الخارجي وليس على أجهزته الحيوية الخاصة، ويعاني قلقًا وجوديًا بنيويًا مزمنًا يظهر في سلوكه العسكري المتوتر. وعلى النقيض من ذلك، تبقى إيران دولة ذات جذور تاريخية وحضارية ممتدة، وعمق سكاني، ونظام سياسي برهن- في هذه الحرب على الأقل– قدرته على امتصاص الصدمات من دون أن يفقد تماسكه الداخلي.
يمكن الشعور بهذا التفاوت بين طبيعة الكيانين بوضوح في أعقاب وقف إطلاق النار: خرج الكيان معتدًا بقوة النار والدعم الأميركي، لكنه ظل –بغض النظر عن النشوة الظاهرية -رهينة قلقه الوجودي. وخرجت إيران بجراحها، وإنما أكثر ثقة في رسوخها، وأكثر قدرة على إعادة إنتاج نفسها رمزيًا وإستراتيجيًا. ربما تكون هذه المفارقة هي ما يجعل النصر والهزيمة مسألة تتجاوز الحسابات الميدانية، نحو الدخول في عمق النقاش حول المشروعية، والثبات، والبنية النفسية للكيانات في الصراعات طويلة المدى.
بينما لم يتبدد غبار المعركة بعد، لن يجد سؤال «من انتصر» في هذه الحرب جوابًا قاطعًا مانعًا بقدر ما سيضيء المنظورات وتنوع النظرات. لم يحقق الكيان هدف انهيار إيران الذي يبدو أنه حاوله، ولم تتمكن إيران من ردع الكيان عن استهدافها مستقبلاً. لكنّ ما خرج به كل طرف من هذه الحرب يتصل أكثر بضمانات البقاء التاريخي: الكيان أكّد قدرته العسكرية، لكنه لم يطمئن إلى تأمين مصيره. وإيران صمدت أمام تحالف هائل غربي- أميركي- وإقليمي ببعض المعاني، وقف كله خلف الكيان المتفوق مسبقًا، وأكدت صعوبة تجاوزها أو عزلها كفاعل إقليمي وموجود تاريخي أصيل في جيوسياسة المنطقة. من هذا المنظور، بدا أن النصر الرمزي، على الأقل، يفضل التاريخ وأصالة الحضور، وعاطفة الإقليم، ومشروعية السردية.