عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    01-Feb-2020

الإسلاميون وإشكالية الدولة الحديثة - صابر النفزاوي

 

 الجزيرة - هناك مطلب منهجي علينا تلبيته قبل محاولة تفكيك موضوعنا المعقّد وهو تحرير المفاهيم؛ إنّنا نريد بالإسلاميّين أولئك الحركيّين الإحيائيّين الذين يلتقون حول غاية تحكيم الشريعة الإسلامية ويفترقون حول الوسائل والرؤى على أن تكون "غير عنفيّة" وألّا تكون "التقيّة السياسيّة" من بين الأساليب المتبنّاة أي أن تكون الغاية النّهائيّة واضحة معلنة وذلك ديدن "أهل السنّة والجماعة"..
 
عليْنا أن نشير ابتداءً إلى أنّ الفكر السياسي الإسلامي يقول بالأصل الديني للدولة بماهي إطار سياسي-مؤسسي جامع تنتظم تحته المكونات الثلاثة (الأرض والشعب والسلطة)، وعليه لا يُعتدّ وفقا لهذا المنظور بـ"العقد الاجتماعي" والتطور التاريخي ونظرية القوة والغلبة إلى غير ذلك من النظريات التفسيريّة الغربيّة…،  فالإسلاميون يربطون بين النبوّة المحمّدية في مرحلتها المدنيّة وبين مأسسة فكرة الدولة،  غير أنّ لفظ”الدولة”هو مصطلح مستجدّ لم يستخدمه القرآن الكريم بصيغته الحالية ولا استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم كما لا نجد له أثرا مفهوميًّا (بمعناه المعاصر) في تراثنا الفقهي، حيث دأب الفقهاء على الإشارة إليْه والدوران حوله باستخدام مصطلحات قرآنية على غرار: مُلك، حكم، قوة، تمكين..
 
يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
 
- فآتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيما
 
- إن الحكم إلا لله
 
- أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
 
- وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ
 
كما أنّ ما يميّز الدولة –إسلاميا- هو موازنتها بين الفردي والجماعي على عكس الطرحيْن الليبرالي والماركسي؛ وإذا أردنا تعريف “الدولة” من المنظور السياسي الإسلامي ربّما صحّ لنا القول إنّها إقليم وشعب في كنف سلطة تمارس سيادتها عليهما عبر نظام سياسي وقانوني يحتكم إلى أحكام الشريعة الإسلامية، ولئن كانت الدولة كما يراها الإسلاميون دينيّة التشريع فانّها في المقابل مدنيّة السلطة بمعنى أنّ الإمام يجب أن يكون من اختيار الأمّة ببيْعة تكون "عقد مرضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار" على كلّ حال موضوع "الدولة في الفكر الإسلامي" موضوع خلافي “مثير” وعلى قدْر كبير من التعقيد.. ويحتاج إلى المزيد من التدقيق والتمحيص حيث لم يرتق الفكر السياسي الإسلامي المعاصر ولم يتوصّل إلى صياغته في إطار فكرة ناظمة واضحة تستجيب لتعقيدات المناخ الدولي المعاصر دون مخالفة قطعيات الدين ومحكمات الشرع.
 
غياب المرجعية التراثيّة يجعل أمر فهم الدولة الحديثة بميكانيزماتها المعقّدة أمرا صعب المنال، فالسلطة السياسية لا تختزل الدولة والدولة ليست السلطة السياسية
ومن أوْجه القصور في التفكير السياسي عند الإسلاميين تحريرهم وفهمهم "السطحي" لمفهوم الدولة الحديثة (ما بعد الكولونيالية) المؤسّسة معرفيًّا على العقلانيّة الماديّة المستغنية عن الدين طريقا إلى المعرفة ولا يُستدعى "المتعالي" في هذا النموذج الوضعي إلّا بغاية خدمة "اللّامتعالي" وهذا يدخل في نطاق ما يسمّيه البعض “تكتيكات الحداثة”، وهو ما رأينا امتداده التاريخي في الحالة البريطانية حيث يرأس الملك الكنيسة منذ القرن السادس عشر(1534م) حين أراد هنري الثامن الفكاك من السطوة السياسيّة للبابا في روما، فإنسان "الدولة الحديثة" هو إنسان خُلِق ليعيش حياة المادّة وكلّ شيء من حوله (السياق العام) مطالب بتوفير ما به يستطيع تحقيق طموحاته المادية المباشرة، وهذا التنطّع "الحداثي" هو ما يعسّر مهمّة التيارات الحركيّة الإسلاميّة المطالَبة بتقديم طرح عصري بديل لا ينفكّ عن الأصيل في مناخ دولي خاشع في محراب “الديمقراطيّة” الإفراز السياسي الأبرز للحداث .
 
وعلى عكس الطرح الإسلامي تتحدّد “الدولة الحديثة” نقيضا بل ضديدا للتقسيمات العمودية وتعمل دائما على التجميع الأفقي (قيَم “المواطَنة” نموذجا) مع ضوابط لإدارة الاختلاف وضبط التوازنات عبر آليات استثنائية كالتمييز الإيجابي والمحاصصة (…) وما بدا واضحا في أكثر من محطّة تاريخيّة أنّ معظم التيارات الإسلاميّة مأخوذة بوهم الاعتقاد بأنّ مجرد الوصول إلى السلطة فيها كفيل بأسلمتها وإخضاعها غير أنّ التجربة قد أثبتت زيْف هذا الاعتقاد وأكّدت تعقّد هذا الكيان وصعوبة ترويضه، فـ"الدولة” ليست “الأمّة” كما نعرفها في الأدبيات الإسلامية.
 
الدولة في شكلها الحديث صنيعة غربية بامتياز توّجت سلسلة من التطورات التاريخية التي انتقلت بالبشرية من مفهوم الدولة-المعبد القائمة على الفلسفة الدينيّة مرورا بمفهوم الدولة-المدينة أو المدينة- الدولة وصولا إلى ما يسمى الدولة القومية التي تبلورت في القرن التاسع عشر ميلادي في أوروبا ليشهدها العالم الإسلامي في أغلب الأحيان بشكل ملفّق عبر الحملات الاستخرابية (الاستعمارية) التي أنتجت حركات تحرر وطني قطرية وإقليميّة،  ومادام ذلك كذلك فمن الطبيعي تماما أن نلحظ ارتباكا في تعامل الإسلاميين مع هذا الكيان المستحدث الذي لا عهد لهم به من قبل ولا يوفّر تاريخهم وبالذات تاريخ السلف الصالح نموذجا يُحتذى.
 
إن غياب المرجعية التراثيّة يجعل أمر فهم الدولة الحديثة بميكانيزماتها المعقّدة أمرا صعب المنال، فالسلطة السياسية لا تختزل الدولة والدولة ليست السلطة السياسية وحدها مثلما تختلف الدولة عن المجتمع وهي فروق إبيستيمولوجية يجب الوقوف عندها طويلا وعميقا لنخلص إلى نتائج ضرورية من بينها أنّ الناس لم يعودوا على دين حكامهم مثلما كان عليه الأمر من قبل، كما أنّ هيكلية الدولة الحديثة على قدْر كبير من التعقيد والتركيب وفعل الأسلمة هو فعل “بسيط” يتوّج سيرورة متكاملة من التطورات والمخاضات العسيرة التي يجب أن تشمل الإدارة بتفرّعاتها الكبرى المدني منها والأمني والعسكري، علينا ببساطة أن نفهم ميكروفيزيائيّة الدولة وميكانيزمات ما يُسمّى الدولة العميقة التي تجذّرت محاورها الرئيسة في الحقبة الاستعمارية حتى يمكننا تطويعها ومن ثمّ "أسلمتها".
 
رغم التحفظات التي يمكن أن يثيرها البعض على فكرة “أسلمة الدولة” ذاتها بتعلة أنها كائن معنوي وأن الأفراد هم من تقع أسلمتهم فإنّنا نعتقد أنّ التجربة أقامت الدليل على أنّ وجود شعب مسلم لا يعني بالضرورة وجود مؤسسات دائمة تحكمها الشريعة الإسلامية لذلك نرى ضرورة التمييز بين أسلمة الدولة و أسلمة المجتمع،  ونسجّل هنا أنّنا لا نعني بأسلمة الدولة أكثر من أسلمة تشريعاتها وهي غاية قابلة للتحقّق وتنتمي فعلا إلى “الممكن السياسي” وليس أدلّ على ذلك من توثّب الغرب للحظة إقامة الخلافة الإسلامية الجامعة ففي عام 2006 صدر تقرير عن مؤسسة “روبير لافون” للنشر الفرنسية يتوقّع انتشار “الإسلام السياسي” بشكل واسع يصل إلى درجة تجاوز “الحدود القطرية” بحلول عام 2020، وعليه تبدو مقاربة “ وائل حلاق” التي عبّر عنها في كتابه ”الدولة المستحيلة.. الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي” عاجزة على ملامسة مكامن قوة الطرح السياسي الإسلامي وقدرته على "التكيّف" مع المحافظة على “الثابت القيمي” بما يستجيب لعبارة علي عزت بيغوفيتش الشهيرة: "إنّك لا تستطيع أن تغيّر العالم برفضه ولكن بقبوله".
 
إذن واجه ويواجه العقل السياسي الإسلامي معضلة استيعاب التعقيدات الإجرائية البنيوية والقيمية للدولة الحديثة إلى الحد الذي جعل الدكتور حسن الترابي أحد "مهادني" الحركة الإسلامية المعاصرة يقول: "دفعنا بأبنائنا لكي يأتوا بالدولة فإذا بالدولة تبتلعهم!" في تشخيص بليغ لما آلت إليه حال معظم الإسلاميين الذين انخرطوا في دائرة مغلقة من المراجعات والنقد المستمر للمكتسبات مما جعلهم يتخلون من حيث لم يشعروا عن مشروعهم ليتكيّفوا مع آليات الدولة العلمانية ومقارباتها إلى حدّ الذوبان في تفاصيلها، ويمكن في هذا السياق استدعاء تجربة حركة النهضة في الحكم بوصفها مثالا فاقعا على هذا “الانكماش العقدي” أمام سطوة الدولة المُعلمنة (بكسر الميم ونصْبها) رغم أنّنا (أو لأنّنا) أمام "دولة محدَّثة" باصطلاح هشام شرابي.