الدستور
لم تعد الكلمات تطرق الأبواب. صارت تقفز من النافذة، عارية من الحرج، واثقة من هشاشتها، كأنها لا تخشى السقوط. في زمن السوشيال ميديا، تحوّل الكاتب من ناسك على أطراف اللغة إلى راقص فوق سطوحها. كل شيء يقال، وكل لحظة قابلة للنشر، وكل رأي مشروع، ولو كان وليد اضطراب مزاج أو نفاد بطارية. لا زمن للتماسك، ولا شغف بالإنجاز الصامت، بل ضجيج مستمر يرتدي قناع الكتابة ويخفي هشاشته خلف تفاعل زائف.
هذا الفضاء الأزرق، المضيء حد العمى، أتاح للكاتب أن ينفلت من عبء الشكل، من هواجس الرقابة، من جهد التهذيب والتحرير والتفكير في المعنى الأبعد. لكنه في المقابل، صادر شيئا لا يعوض، الشعور بالمسؤولية تجاه النص، والانتماء إلى مشروع أكبر من التفاعل اللحظي. كأننا نكتب كي نهرب، لا لنبني. نعلّق كي نُسمع، لا لنكشف. صرنا نبحث عن النجاة عبر السخرية، عن الحضور بأي ثمن، ولو كان ذلك على حساب عمق الفكرة ونبل المعنى.
منشورات متفرقة، سرديات مبتورة، رؤوس بلا أجساد، جمل مشحونة بالفراغ. هكذا تبدو الكتابة اليوم، تحت رحمة الخوارزميات. لقد صارت أشبه ببث حي للأفكار، لا كتابا يكتب ولا أثرا يروى. حتى اللحظات التي كانت تصنع شرارة الكتابة تحولت إلى منشور عابر يستهلك وينسى. القارئ لا يبحث عن عمق، بل عن مفاجأة. والكاتب لا يزرع أثرا، بل يجمع إعجابات، ثم يمضي ليعيد الكرة وكأنه يصطاد في نهر عكر لا قاع له.
فهل فقد الأدب شجاعته؟ هل استبدلنا المتن بالهامش، والبقاء بالظهور، والمعنى بالصدى؟ من يكتب للذاكرة الآن؟ من يعيد لملفاته القديمة حياة وحلما مشتهى؟ ومن يملك أصلا الوقت ليقرأ نفسه مرتين؟ أسئلة مؤلمة، لكنها ضرورية.
الكتابة على الماء ليست مجازا بعد اليوم، بل واقع يتكرر كل دقيقة ويجعل من كل نص مشروع نسيان، ومن كل لحظة كتابة تمرينا على الزوال والانمحاء. لكن ما الذي يبقى حين لا يبقى شيء؟ هل يمكن للضياع أن يكون نوعا من التأريخ؟ وهل نجرؤ أن نسمي هذا الذي يحدث أدبا، أم نكتفي بالصمت ونراقب الغرق ونحن نبتسم بأسى؟
ربما آن أوان السؤال الأخير، السؤال الذي يوجع ولا يهدأ: من يكتب ليبقى، ومن يكتب ليهرب؟ ومن يجرؤ أن يكتب وقد صار الصمت أكثر بلاغة من كل النصوص؟