عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    13-Aug-2020

العنوسة..تنمر سينمائي

الراي - أبواب - زياد عساف - «على مسمع من الجيران وفي ساعة متأخرة من الليل اعتاد سكان الحي الاستماع للتعنيف والتصغير الذي تمارسه الأم على ابنتها لتأخرها في سن الزواج.. وعندما ذهبت الأخيرة لحضور زفاف صديقتها لم تسلم من نظرات الحضور الموزعة ما بين التهكم والشفقة..وكانت الصدمة التالية حين توجهت الفتاة لتقديم التهنئة للصديقة في منزلها بعد أيام من حفل الزفاف ولم تتوانَ العروس وقتها عن إخفاء زوجها حرصاً عليه من صديقتها التي أصبحت بين ليلة وضحاها(خاطفة الرجال) بالنسبة لها لتواجه الزائرة غير المرغوب بها الحقيقة المُرَّة بأن عليها مجابهة التنمُّرْ الاجتماعي الذي خصَّها بذاك اللقب المجحف..(عانس) !».

العقل الباطن..
هذا ليس مشهداً سينمائياً من فيلم وإنما واقعة حقيقية بل وتتكرر يومياً، عجزت السينما العربية إلا ما ندر عن تناول هذه القضية برؤية تحليلية تسلط الضوء على المسببات، وكيفية إيجاد الحلول لهذه الإشكالية التي أصبحت كابوساً يقض مضجع العديد من العوائل والأسر جراء أزمات اقتصادية وسياسية وتقاليد إجتماعية مجحفة، وما تخلفه من إحباطات ورؤى مغلوطة تجاه واحدة من أهم الأزمات التي باتت تعيشها المرأة العربية.
على ما يبدو أن صناع السينما العربية لم يدركوا حجم الضرر الذي خلفه الفن السابع بتقديم هذه الشخصية بطريقة هزلية ما ساهم بتشكيل هذه النظرة الساخرة تجاه إنسانة كل ذنبها أنها لم تجد شريك الحياة المناسب بعد، كالدور الذي اشتهرت به زينات صدقي بمجموعة أعمال مثل شارع الحب إنتاج 1958 في شخصية سنية ترتر وهويدا بفيلم عريس مراتي 1959 ،حتى أصبح لها بعض (الإيفيهات) الشهيرة خاصة وهي تستغيث بفيلم ابن حميدو :(عايزة اتجوز يا اخواتي.. يعني أنا اللي هافضل كده من غير جواز.. حتى مش كويس على عقلي الباطن !)، ضحك الجمهور كثيرا على هذه العبارة وما زال مع كل إعادة للفيلم إلا أن أحداً لم تستوقفه عبارة (العقل الباطن) على لسان زينات، وهذا ما كان على المخرجين والمؤلفين وضعه في اعتبارهم فالعقل الباطن وما يكتنزه من أحداث ومواقف هو الذي يعكس تصرفات وسلوك وردود أفعال هذه الفئة من النساء تجاه المجتمع والأوساط المحيطة التي يعيشون بها.
نفيسة..
شخصية (نفيسة) بفيلم بداية ونهاية مثال حي على ذلك، وكان من أهم الأدوار التي عبرت عن معاناة الفتاة التي تخطاها قطار الزواج وأبدعت الفنانة القديرة سناء جميل بأداء هذه الشخصية المركبة، فالمفروض أنها فتاة فقيرة لا تملك مقومات الجمال وتعمل في مهنة الخياطة ظاهرياً لتساهم مع والدتها في إعالة اشقائها، إلا أن رغبتها الدفينة بأن تحظى بإعجاب الرجال بعد أن أصبح حلم الإرتباط برجل ميئوساً منه دفعها لأن تعمل كبائعة هوى لتشعر بقرارة نفسها بأن هناك من يرغب بها، وهذا التقييم حصل على شبه إجماع من قبل نقاد سينمائيين في تحليلهم للدافع الذي أودى بـ (نفيسة) لهذه النهاية.
المخرج أسامة فوزي عاد ليؤكد هذه النزعة الفطرية في شخصية إنشراح (سلوى خطاب) التي تجاوزت الثلاثين من العمر من خلال أحداث فيلم (عفاريت الأسفلت) 1996 لحظة اكتشاف انشراح أن الشاب الكهربائي يتلصص عليها في غرفة نومها عندها شعرت بسعادة بالغة كونها لازالت مرغوبة أيضاً.
كريمة..
«كريمة» هي النموذج الثاني للفتاة العانس على الشاشة ويستحق البحث عبر أحداث فيلم (المرايا) للمخرج أحمد ضياء الدين إنتاج 1970 ،يختلف هذا العمل عن غيره بأن بطلة الفيلم (نجلاء فتحي) على درجة عالية من الجمال وليست بالمواصفات التقليدية التي رسختها السينما للفتاة العانس المفتقدة لمقومات الجمال على شاكلة زينات صدقي\ وسناء جميل وعائشة الكيلاني ومع ذلك فلقد مرت أعوام دون أن تجد (كريمة) الشريك المناسب لترددها في الإختيار، ولجوءها ل (المرايا) في كل مرة ينفض عنها العريس المتقدم لخطبتها لتواسي نفسها وهي تتأمل محاسنها وفي الوقت ذاته يأتيها صوت والدتها الذي أوصلها لهذه الحالة: (بكره يجيلك أحسن منه.. هوه في واحدة في جمالك !).
وفي النهاية تجد (كريمة) الحل بإكمال تعليمها، ومع المشهد الأخير تتوجه لساحة جامعة القاهرة وشعرها مربوط للخلف كناية عن إبعاد ما يحجب عينيها عن رؤيتها للحقيقة التي وصلت إليها في النهاية، ورغم تناول المخرج لهذه الموضوع برؤية مختلفة لم يتطرق لها كثيرون، إلا أن الفيلم لم يلق النجاح لسيطرة الحس التجاري على مضمون العمل وتوظيف عادل إمام لافتعال المواقف الكوميدية بعيداً عن جوهر القضية.
وفيما بعد ظهرت أيضاً شخصيات نسائية في السينما المصرية ممن فاتهن قطار الزواج رغم أنهن يحظين بالجمال ما يعني تجاوز الصورة النمطية للعانس بأنها دميمة الشكل، ومن هذه الأعمال دور عزة (يسرا) بفيلم الراعي والنساء إنتاج 1991 وفيلم (يا دنيا ياغرامي) 1995 ويجتمع به فاطمة (ليلى علوي) وسكينة (إلهام شاهين) ونوال (هالة صدقي)، وغادل عادل بفيلم (في شقة مصر الجديدة) 2007 في دور نجوى التي تسعى للإرتباط ولكن من خلال قصة حب تعيشها مع شعورها بالقلق في الوقت نفسه لاقترابها من سن العنوسة.
عريس يا بوي..
العنوسة ظلت قضية ثانوية في عشرات الأفلام، ومع عدم الإحساس بالمسؤولية اساءت السينما العربية عموما للفتاة التي تأخر سن الزواج بالنسبة لها بإظهارها كشخصية هامشية أيضاً وكظل لبطلة الفيلم ومساعدة لها تشجعها على إقامة قصة حب والإرتباط بفارس الأحلام وهي أحوج ما تكون لذلك وكأنها لسان حال أم كلثوم وهي تغني(يا رب هل يرضيك هذا الظمأ.. والماء ينساب أمامي زلالا !)، هذه الشخصية قدمتها ليلى حلمي مع ميرفت أمين بفيلم (واحدة بواحدة) 1984 ،وكذلك الأمر نبيلة السيد مع سعاد حسني بفيلم (غريب في بيتي) 1982.
في الوقت نفسه كررت السينما العربية نموذج زينات صدقي الهزلي للفتاة العانس كدور (مسعدة) نبيلة السيد بفيلم (البحث عن الفضيحة) 1972 عندما يدخل سمير صبري لغرفتها بالخطاء، وتلقي القبض عليه باعتباره العريس المنتظر وتصرخ مستعينة بوالدها الصعيدي محمد رضا (عريس يا بوي !)، وهذا ما ينطبق أيضاً على معظم أعمال الفنانة وداد حمدي في دور (الشغالة) التي فاتها قطار الزواج.
صورة أخرى..
الصورة السينمائية الأخرى والتقليدية أيضا كانت معاكسة للشخصية الهزلية للعانس على الشاشة الفضية، وتقديمها بدور المرأة الجادة والسوداوية كدور نجمة ابراهيم وهي تؤدي شخصية المديرة في سكن الطالبات وتعاملها معهن بحدة وقسوة كنوع من الغيرة والحسد تجاههن وانتقام غير مباشر من نظرة المجتمع الدونية لها، وكررت هذا الدور في الأعمال السينمائية: أربع بنات وضابط 1954 ،بيت الطالبات 1967 وبيت القاصرات 1984 ،وفي دور مشابه قدمت الفنانة إحسان شريف أيضاً دور المديرة التي تمارس سطوتها على المعلمة فايزة (فاتن حمامة) بفيلم الطريق المسدود 1957.
بأجواء توحي بالبؤس والعزلة وضمن أحداث فيلم (أين عمري) 1957أدت كل من إحسان شريف (رئيفة) وعزيزة حلمي (سوسن) دور شقيقتين فاتهما قطار الزواج، تلجأ سوسن وبدافع الوهم لقراءة البخت من خلال أوراق الشدة علها تجد البشرى بقدوم العريس المنتظر، أما رئيفة فتمضي وقتها بغزل الصوف وكأنها تنسج حكاية الإنتظار لفارس الأحلام الذي طال انتظاره.
يحسب للفنانة عبلة كامل أنها تمكنت وببراعة كسر هذا القالب التقليدي في دور (وداد) بفيلم هستيريا 1998 ،واستطاعت أن تجمع بين بين الحالتين السخرية والمأساة، وهي تؤدي شخصية فتاة عانس افتقدت الأمان والإستقرار بعد عجزها عن الإرتباط برجل تحقق من خلاله فطرة الأمومة التي هي غاية كل امرأة.
بنتين من مصر..
يحسب للكاتب والمخرج محمد أمين بأنه أول من تطرق لموضوع العنوسة وبشكل مباشر بفيلمه المتميز (بنتين من مصر) إنتاج عام 2010 ،ووضوح مدى إخلاصه وغيرته بتقديم شخصية العانس وانعكاس الواقع السياسي والإجتماعي والإقتصادي المتردي على معاناتها، والصراع النفسي والقلق من المستقبل المجهول في ظل غياب الرجل.
جاء ذلك من خلال حبكة مدروسة لقصة فتاتين تخطتا سن الثلاثين، وهما الطبيبة داليا (صبا مبارك) وحنان (زينة) الموظفة الحاصلة على مؤهل جامعي وتمتعهما بنسبة مقبولة من الجمال، ورغم هذه المزايا إلا أن ذلك لم يحل من تقديهما للتنازلات فيما يتعلق بمواصفات شريك الحياة لدرجة قبول حنان بفحص كشف العذرية تنفيذاً لرغبة العريس المتقدم لها (إياد نصار) نظراً لأنه يعاني من إشكالية عدم ثقته بالمرأة، وتبلغ الأزمة ذروتها عند توجههما معاً (حنان وداليا) لمكتب الزواج بحثا عن شريك الحياة، وفي النهاية ذهابهما معا للمطار بهدف الإلتقاء بالعريس على عجل نظراً لضيق وقته على أمل أن يختار واحدة منهما !.
إخفاق..
إخفاق السينما العربية بعدم طرح هذه االقضية بالصورة اللائقة كغيرها من المواضيع كقضية الأرملة أو المرأة العاملة أو الخيانة الزوجية مثلاً لأن هذه القضية كانت تحتاج لفنانات قديرات بوزن فاتن حمامة أو سعاد حسني أو نجلاء فتحي، إلا أنهن لم يبادرن بتلك الخطوة ما كان سيسلط الضوء على قضية من تأخر سن زواج الفتيات وإمكانية أن يساهم ذلك بإعادة النظر في العديد من القوانين الإجتماعية كفيلم أريد حلا لسيدة الشاشة العربية، أو عفواً أيها القانون لنجلاء فتحي على سبيل المثال.
وعلى ما يبدو أنه هذا الموضوع كان ولا يزال يشكل حساسية للمرأة في حال ظهورها في شخصية العانس، ففي المهرجانات السينمائية العربية الحالية تتسابق النجمات بالظهور بأجمل مايمكن وبأحدث تسريحة واّخر صرخة في عالم الموضة في محاولة لإخفاء عامل الزمن، ومن الطبيعي بالنسبة لهن رفض هذه الدور.
من النادر أن تتطرق السينما العربية لقضية العنوسة من زاويا أخرى، وعلى سبيل المثال أن الفتاة لم تجد شريك الحياة المناسب لأفكارها خاصة للجامعيات ومن يتمتعن بثقافة عالية، أو رفض الأب لزواج الفتاة ليستفيد من راتبها الشهري، أو خلافات بين الأب والأم تخلق حالة من نفور الفتاة تجاه فكرة الزواج نفسها.
أعمار..
لا تتوانى السينما العربية بأن تكون ذكورية الطابع إذ يُطلق لقب العانس على الفتاة فقط، مع أنه يطلق على الرجل أيضاً طالما أن الأمر يتعلق بتراجع فرص الإختيار مع تقدم العمر لكليهما وحسب الأعراف الإجتماعية التقليدية.
ساهمت السينما أيضا بالتركيز علن أن سن العنوسة للفتاة يبدأ من الثلاثين وكأن الأمر أشبه بالعمر الملزم للشاب للإلتحاق بخدمة العلم، أو سن التقاعد للفرد الذي يشير بانتهاء دوره في العطاء، والملفت حقاً أن الدراما السينمائية لم تسلط الضوء على الحقيقة الراسخة وتأكدها الأحداث كل يوم أن لقب عانس أفضل من مطلقة، والمطلقة حالها أفضل من امرأة تعيش مهانة ذليلة في بيت الزوجية.
الملافظ سعد
يقولون في الأمثال (الملافظ سعد)، فماذا كان سيضير السينما لو ركزت في تناول الألقاب فبدل من عانس ليكن عزباء أو اّنسة أو غير متزوجة مثلا، وهذا كان سيغير من نظرة الناس بطبيعة الحال، وبغض النظر عن المسميات فمقابل كل فتاة تأخر زواجها يوجد شاب يعيش نفس الإشكالية لأن العنوسة ليست بالأعمار وإنما في نهج التفكير، فتأخر الزواج في الدول النامية جاء جراء الأزمات الاقتصادية والإجتماعية والإعلامية، لأن الاقتصاد قد أصبح عانساً، والعنوسة ترسخت في طريقة تفكير المجتمعات ورؤيتها المتدنية لمن لم ترتبط بعد، والسينما العربية أيضاً (عنَّسَتْ) وكادت أن تبور لأنها أخفقت في تناول هذا النوع من القضايا الهامة والحساسة أيض