عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Dec-2025

كيف تمكن خطة ترامب لغزة عملية استيلاء إسرائيلي جديدة على الأرض؟

 الغد

ترجمة: علاء الدين أبو زينة
آن إيرفان – (جويش كرنتس) 8/12/2025
تشكل خطة ترامب لغزة امتدادًا تاريخيًا لسياسات دولية–غربية مكّنت تقليص الأرض الفلسطينية ونزع السيادة منهم، باستخدام أدوات أمنية وإدارية وحدودية وإعمارية، تُشرعن السيطرة الإسرائيلية، وتُفاقم التهجير والحصار، وتحوّل وقف إطلاق النار إلى غطاء لمواصلة نكبة مستمرة على حساب الحقوق الفلسطينية.
 
 
في 18 تشرين الثاني (نوفمبر)، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم 2803، مُصادقًا بذلك رسميًا على خطة الرئيس ترامب ذات النقاط العشرين لمستقبل غزة. وكانت الخطة قد طُرحت أولًا بوصفها أساسًا لاتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الأول (أكتوبر)، وهي تُنشئ عددًا من الهياكل الجوهرية: أولًا، تنشئ الخطة "خطًا أصفر" يحدّد الأجزاء من غزة التي سيُبقي فيها الجيش الإسرائيلي على وجود ميداني؛ ثانيًا، تنشئ الخطة "قوة استقرار دولية"، والتي ستعمل بوصفها "حلًا طويل الأمد لمسألة الأمن الداخلي"، تحت إشراف "مجلس سلام" يترأسه ترامب نفسه؛ ثالثًا، تستشرف الخطة إنشاء "لجنة فلسطينية تكنوقراطية غير مسيّسة" تضم خبراء فلسطينيين ودوليين، تُكلَّف بإدارة مسألة "الحكم الانتقالي" في غزة؛ وأخيرًا، تتضمن "خطة ترامب للتنمية الاقتصادية لإعادة إعمار غزة وتنشيطها".
في توسيع للمبالغة المفرطة التي وسمت ادعاءاته بأنه أنهى "ثلاثة آلاف عام" من الحروب في الشرق الأوسط، رحّب ترامب بموافقة مجلس الأمن الدولي على خطته بوصفها "لحظة ذات أبعاد تاريخية حقيقية"، من شأنها أن "تقود إلى مزيد من السلام في أنحاء العالم كافة". لكن القرار 2803، على الرغم من هذه اللغة الخطابية، لا يشير إلى قطيعة مع الماضي. بل على العكس؛ إنه يجسّد استمرارية نهجٍ امتد لعقود من الخطط التي وُصفت بأنها دولية، بينما كانت في الواقع غربية وإسرائيلية، بشأن فلسطين. وقد أعادت هذه الخطط التي تتجلى نماذجها في انتداب "عصبة الأمم"، وخطة التقسيم الأممية، واتفاقيات أوسلو، صياغة الجغرافيا السياسية، وأنماط الحوكمة، وبنى المساعدات بطريقة أدت إلى تقليص مطّرد للرقعة الفلسطينية. وقد تحقق ذلك من خلال استحداث "حدود" جديدة قابلة للتحريك، مثل الخط الأصفر، كوسيلة لإحداث تخفيضٍ تدريجي لمساحة الأرض المخصصة للشعب الفلسطيني ولدولته المفترضة. كما أنشأت هذه الخطط هيئات من قبيل "قوة الاستقرار الدولية" التي يقترحها ترامب ولجنته "الفلسطينية غير السياسية" بهدف احتواء النزعة الوطنية الفلسطينية ومقاومتها، مع إتاحة المجال في الوقت نفسه لمزيد من الإفلات الإسرائيلي من العقاب. وقد تم تنفيذ هذه الإجراءات جميعها من دون أي مشاركة فعلية من الشعب الفلسطيني، بل من خلال ترسيخ ديناميات استعمارية جديدة يتجلى أحد وجوهها في إشراك رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، ليكون عضوًا رئيسيًا في "مجلس السلام" الذي يرأسه ترامب.
وفي المحصّلة، مكّنت مثل هذه الخطط إسرائيل من الاستيلاء على مزيدٍ من الأراضي الفلسطينية بصورةٍ تدريجية، بينما يتم في الوقت نفسه ترسيخ مزيد من العوائق أمام السيادة الفلسطينية. ويغلب أن تكون تبعات خطة ترامب وفية للنمط نفسه -بما قد يفضي إلى أي شيء، من تحويل الفلسطينيين إلى سكان غيتوهات بالكامل في أجزاء من القطاع، وصولًا إلى التصفية الشاملة للوجود الفلسطيني في غزة.
مكّنت المقترحات التي قادها الغرب عمليات الاستيلاء الصهيونية على الأرض في فلسطين لما يقرب من قرن كامل. قبل العام 1948، كانت فلسطين تُدار في ظل نظامٍ بريطاني استمدّ انتدابه من "عصبة الأمم" -وهي هيئة كانت خاضعة في ذلك الحين لهيمنة بريطانيا وفرنسا. ثم، في العام 1947، قدّمت الأمم المتحدة "خطة التقسيم" سيئة الصيت، التي أوصت بتخصيص 55 في المئة من فلسطين لدولة يهودية في وقتٍ كان اليهود يشكّلون فيه نحو ثلث سكان البلاد. وقد رفض الفلسطينيون الخطة، بينما قبلتها "الوكالة اليهودية" (القيادة الصهيونية الرئيسية والكيان شبه الدولتي في فلسطين الانتدابية)، التي رأت فيها صفقةً مناسبة وأساسًا لتوسّعٍ لاحق محتمل.
وفي نهاية المطاف، لم يتم تنفيذ خطة التقسيم قط؛ وكان الذي تحقق فعليًا هو التوسّع الصهيوني وحده. وقد لجأت الميليشيات الصهيونية، ثم الجيش الوطني الإسرائيلي الذي تشكّل حديثًا، إلى الوسائل العسكرية لإقامة دولتهم الجديدة على ما نسبته 78 في المئة من أرض فلسطين، وهي مساحة أكثر بكثير من نسبة الـ55 في المئة التي كانت قد خصّصتها خطة الأمم المتحدة لليهود. ولتحقيق ذلك، قامت العصابات الصهيونية بإحداث النكبة، الطرد والتهجير المتعمّد لما لا يقل عن 750 ألف فلسطيني إلى الدول العربية المجاورة وإلى الجزأين من فلسطين اللذين لم تطالب بهما إسرائيل في العام 1948: الضفة الغربية وقطاع غزة. وبذلك تم تقسيم فلسطين بحكم الأمر الواقع من دون أن تُقام دولة فلسطينية مستقلة. وبعد أن بدأت إسرائيل احتلالها طويل الأمد للضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، فرضت واقع الدولة الواحدة، حيث بسطت الدولة الإسرائيلية سيطرتها على كامل فلسطين التاريخية، وفرضت في الوقت نفسه تراتبية من أنظمة حكم مختلفة على الفلسطينيين والإسرائيليين.
تشكّلَ قطاع غزة كما نعرفه اليوم من خلال هذا التاريخ من الانكماش المتواصل للأراضي الفلسطينية. في ظل الانتداب البريطاني، كانت المنطقة الجنوبية من فلسطين -المعروفة أحيانًا بشكل غير رسمي باسم "مقاطعة غزة" نسبةً إلى أكبر مدنها -أكبر الوحدات الإدارية من حيث المساحة. لكن الميليشيات الصهيونية، ثم الجيش الإسرائيلي، استولوا خلال النكبة على معظم هذه المنطقة بحيث تم تقليص هذا الإقليم إلى مساحة لا تتجاوز 214 ميلًا مربعًا.
وفي العام 1949، حدّدت الاتفاقية المصرية–الإسرائيلية هذا "القطاع" الغزّي الذي تشكّل حديثًا من خلال رسم خط هدنة حوله عُرف لاحقًا باسم "الخط الأخضر". وفي العام التالي، وافقت حكومة مصرية منهكة في ذلك الحين على ملحقٍ إضافي قلّص مساحة قطاع غزة الوليد بنسبة 20 في المائة أخرى، ليصبح بذلك إقليمًا ضئيلًا لا تتجاوز مساحته 141 ميلًا مربعًا -أي أقل من 1.5 في المائة من مساحة فلسطين التاريخية. ومع ذلك، مضت إسرائيل في التعامل مع الخط الأخضر وضبطه بوصفه حدًّا دوليًا، على الرغم من كونه، من الناحية الرسمية، مجرد خط هدنة مؤقت.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. بعد أن بدأت إسرائيل احتلالها طويل الأمد لقطاع غزة في العام 1967، عمدت إلى تقليص المساحة المتاحة للفلسطينيين أكثر فأكثر -أولًا عبر إقامة مستوطنات غير قانونية ومنشآت عسكرية، ثم من خلال فرض "مناطق عازلة" و"محيطات أمنية". وأدّت "عملية أوسلو" إلى تقليص القطاع بشكل إضافي، حيث أنشأت إسرائيل "محيطًا أمنيًا" يمتد لأكثر من نصف ميل داخل غزة، مع فرض الجيش "إجراءات أمنية خاصة" لمنع الفلسطينيين من دخوله.
واستمر التوغّل الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية خلال القرن الحادي والعشرين. فبعد إتمام إسرائيل انسحابها الأحادي من غزة في العام 2005، وإجلاء 8.500 مستوطن من القطاع، عمدت إلى فرض "منطقة عازلة" مقيّدة امتدّت قرابة ميل داخل القطاع. وكان أي فلسطيني يُعثر عليه داخلها عُرضة لإطلاق النار الفوري. وبعد فرض حصار شامل على غزة في العام 2007، بدعم من حلفائها المصريين، عمدت إسرائيل إلى توسيع هذه المنطقة العازلة بشكل دوري، مما حصر الفلسطينيين في رقعة أرض آخذة في التقلّص باستمرار. وقد بلغت المنطقية القاتلة لـ"المنطقة العازلة" ذروتها في المجازر الجماعية التي وقعت خلال مسيرات العودة الكبرى في العام 2018، حين قتلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 234 فلسطينيًا، وجرحت أكثر من 33 ألفًا ممن اقتربوا "أكثر مما ينبغي" من السياج المحيط بالقطاع. وربما تبلغ هذه العقود من الاستيلاء المتواصل على الأرض ذروتها الآن مع أحدث خطة لغزة، التي تواصل تنفيذ ما يصفه كثير من الفلسطينيين بأنه العملية المتعمّدة لإحداث نكبةٍ مستمرة.
لدى النظر إلى خطة ترامب ضمن هذا المسار التاريخي، يمكن تمييز أربعة محاور لاستراتيجية نزع الملكية. ويأتي "الخط الأصفر" نفسه في مقدمة هذه الأركان. فبموجب شروط وقف إطلاق النار، كان مطلوبًا من القوات الإسرائيلية "الانسحاب إلى الخط المتفق عليه"، وهو توجيه أتاح بهدوء وبشكل ضمني للجيش الإسرائيلي الاحتفاظ بسيطرة مباشرة على ما لا يقل عن 58 في المئة من مساحة قطاع غزة. وبعبارة أخرى، فإن هذا التحصين يقلّص الجزء الفلسطيني من غزة إلى أقل من نصف القطاع -أي إلى ما لا يزيد على 64 ميلًا مربعًا، أو نحو خُمس مساحة مدينة نيويورك. وهنا يتردّد صدى التاريخ مرة أخرى: ففي نكبة في العام 1948، فرّ أكثر من 200 ألف لاجئ فلسطيني باتجاه الجنوب الغربي لينتهي بهم المطاف محصورين في قطاع غزة. وخلال الإبادة الجماعية بين العامين 2023 و2025، أعادت القوات الإسرائيلية تنفيذ العملية نفسها داخل قطاع غزة ذاته، من خلال تهجيرٍ عنيف وقسري طال قرابة مليوني فلسطيني، وحصرهم في الجهة الغربية من "الخط الأصفر".
ولا يُرجّح أن يكون هذا آخر فصول نزع الملكية الذي يجري تحت غطاء "الخط الأصفر". بعد أن أشار الفلسطينيون إلى الغموض المحيط بموقع هذا الخط، أعلنت إسرائيل في 20 تشرين الأول (أكتوبر) أنها شرعت في وضع كتل إسمنتية صفراء على الأرض "لإيجاد وضوح تكتيكي". غير أن هذه الكتل المادية، بدل أن تزيل الغموض، زادته فعليًا، حيث واصلت إسرائيل تحريكها باستمرار إلى عمق أكبر داخل غزة. كما توالت التقارير الإخبارية التي تتحدث عن شنّ القوات الإسرائيلية توغلات برية لتنفيذ هجمات عبر "الخط الأصفر"، في خرقٍ واضح لشرط وقف إطلاق النار الذي ينص على أن "إسرائيل لن تحتل غزة أو تضمّها".
وكما حدث حين انتهكت إسرائيل مرارًا شروط اتفاقات أوسلو في تسعينيات القرن الماضي -من خلال تأخير انسحابها العسكري من مدينة غزة، على سبيل المثال، ثم غزوها اللاحق لمناطق يفترض أنها خاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية- فإنها لم تواجه أي تبعات على خروقاتها المتواصلة. بل إن الأدلة تتزايد على أن البيت الأبيض، بدلًا من مطالبة إسرائيل بالالتزام بالاتفاق، يتواطأ بهدوء مع خطط تُدار خلف الكواليس لاحتلال إسرائيلي دائم لغزة، وربما ضمّها بالكامل. وكما حدث، في الأسبوع نفسه الذي أقرّ فيه مجلس الأمن القرار 2803، دفعت الولايات المتحدة قدمًا بمقترحات لتقسيم قطاع غزة بصورة دائمة، بما يحوّل "الخط الأصفر" من حاجز عسكري مؤقت إلى حدود محتملة في المستقبل. وفي الوقت ذاته، يواصل سياسيون إسرائيليون ونشطاء من اليمين المتطرف الدعوة إلى الطرد الدائم لفلسطينيي غزة، بدعمٍ كاسح من الرأي العام اليهودي الإسرائيلي بلغت نسبته 82 في المائة في أحد استطلاعات الرأي الأخيرة.
تشكل "قوة الاستقرار الدولية" التي تحدثت عنها خطة ترامب المحور الثاني من محاور الاستيلاء على الأرض، وهو محور يستعيد بدوره تجربة اتفاقات أوسلو. كان قد تم الترويج لاتفاقيات أوسلو في تسعينيات القرن الماضي بوصفها حلًا سلميًا لعقود طويلة من العنف، وتم عرضها علنًا ضمن خطاب "حل الدولتين"، لكنها كانت تركز بشكل أساسي -كما هو حال خطة ترامب اليوم- على الشاغل المركزي للإسرائيليين: أمنهم القومي. بعد إنشاء "السلطة الفلسطينية" في العام 1994 برعاية أوسلو، تم في الواقع توظيف ما يقرب من نصف موظفيها لأداء مهام أمنية. ولم تُكلَّف هذه الأجهزة بحماية أمن الشعب الفلسطيني، بل اشتغلت بقمع أي نشاط يُعتبر تهديدًا للمصالح الإسرائيلية -بما في ذلك المقاومة المدنية السلمية للاحتلال. ونتيجةً لذلك، سرعان ما اكتسبت "السلطة الفلسطينية" سمعةً واسعة الانتشار بين الفلسطينيين بأنها تعمل كأداة بيد الجيش الإسرائيلي.
واليوم، تعود ديناميات مشابهة لتتكرّر مع "قوة الاستقرار الدولية". فعلى الرغم من أن عضوية هذه القوة لم تُحسَم بعد، تشير التقارير إلى أنها ستضم قوات من دول عربية وإسلامية متعددة، من بينها أذربيجان، ومصر، وإندونيسيا، وقطر، والإمارات العربية المتحدة -مع أن أيا من هذه الدول لم تؤكّد مشاركتها رسميًا. ووفقًا للبيت الأبيض، ستُسهم القوة في تدريب جهاز شرطة فلسطيني جديد في غزة، وإدارة شؤون الأمن الداخلي، إلى جانب اضطلاعها بدورٍ قيادي في "نزع سلاح" غزة و"تأمين الحدود". وهذان المطلبان ينتميان إلى مجموعة المطالب الإسرائيلية الفضفاضة القابلة لتفسيرات متعددة -خاصة وأن "الحدود" المقصودة غير محدّدة، ما يفتح الباب أمام عمليات استيلاء إضافية على الأرض. ويكاد هذا الترتيب يضمن استمرار تقلّص الأراضي الفلسطينية. وقد عبّر عدد من النقّاد العرب والمسلمين مُسبقًا عن مخاوفهم من أن تجعل مشاركة حكوماتهم منها "أداةً في يد الدولة الإسرائيلية".
وبالإضافة إلى ذلك، تعيد ترتيبات الحكم الفلسطيني، التي تشكّل المحور الثالث في استراتيجية نزع الملكية ضمن خطة ترامب، إلى الأذهان مرة أخرى تجربة أوسلو. فقد روّج أنصار اتفاق التسعينيات ذاك لإنشاء "السلطة الفلسطينية" باعتباره خطوة تمهيدية نحو الاستقلال الفلسطيني. لكنّ ثمة عائقًا كبيرًا كان قائمًا هناك منذ البداية: لم توافق إسرائيل قط على إنشاء دولة فلسطينية كاملة السيادة، حتى في ظل حكومات ترأسها رؤساء وزراء يُنظر إليهم بوصفهم "حمائم سلام" مثل يتسحاق رابين وإيهود باراك. وخلال مسار أوسلو، وافقت إسرائيل على منح السلطة الفلسطينية حكمًا ذاتيًا محدودًا (وليس سيادة) على ما لا يزيد على 18 في المائة من مساحة الضفة الغربية وثلاثة أرباع قطاع غزة؛ كما أصرت على الإبقاء على الكتل الاستيطانية غير القانونية التي استحوذت على مساحات إضافية من الأراضي الفلسطينية. ونتيجةً لذلك، قيّد مسار أوسلو صلاحيات "السلطة الفلسطينية" تقييدًا صارمًا: لم يُسمح لها بامتلاك جيش وطني، ولا بسيادة على الحدود، ولا باستقلال اقتصادي. وبالإضافة إلى ذلك، تم تأجيل حق الفلسطينيين في تقرير المصير إلى "مفاوضات الوضع النهائي" التي لم تأتِ على الإطلاق، بينما جرى في الوقت نفسه تجاهل القضايا الجوهرية في النضال الفلسطيني -وفي مقدمتها حق العودة ووضع القدس.
مرة أخرى، في عقد العشرينيات من هذا القرن، أكّد رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي مرارًا معارضته المطلقة لإقامة دولة فلسطينية من أي حجم، في وقت تواصل فيه معظم الحكومات الأوروبية دعمها العلني لصيغة حل الدولتين باعتبارها المسار الوحيد الممكن لحل الصراع. ونتيجةً لذلك، توفّر خطة ترامب مستوى من الحكم الذاتي الفلسطيني أقل حتى مما مُنح لهم بموجب أوسلو. لا وجود في الخطة لما يعادل "السلطة الفلسطينية"؛ ويقتصر الأمر على لجنة انتقالية خاضعة لإشراف "مجلس السلام" الذي يرأسه ترامب. ومن اللافت أن الخطة تتحدث عن الدولة الفلسطينية وتقرير المصير بوصفهما "تطلّعًا" بدلًا من كونهما "حقًا"، ولا تقترح سوى أنه بعد التنمية والإصلاح "قد تتوافر أخيرًا الشروط اللازمة لمسار ذي مصداقية" نحو تحقيق ذلك الهدف.
تتمثّل الأداة الرابعة، وربما الأكثر فجاجة، لنهب الأراضي في أشكال إعادة إعمار ذات طابعٍ استعماري جديد. بموجب هذه الخطط، يُفترض أن يُعاد إعمار "المنطقة الخضراء" الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية (شرق غزة) بدعمٍ من جهات مدعومة من الولايات المتحدة، يرى كثير منها في غزة ما لا يعدو كونه فرصة لتحقيق الأرباح. وقد أكدت وزارة الخارجية الأميركية في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) وجود مخطط لإنشاء ما أسمته "مجتمعات آمنة بديلة" لإسكان الفلسطينيين داخل هذه "المنطقة الخضراء". ولكن، مع كون الغالبية الساحقة من سكان غزة الفلسطينيين محصورين حاليًا في الجهة الغربية من "الخط الأصفر" -أي في ما تسمّى "المنطقة الحمراء"-يبقى من غير الواضح كيف يمكن نقلهم إلى تلك المجتمعات، أو ما الذي سيعنيه ذلك لمستقبل "المنطقة الحمراء" نفسها. كما يُظهر مقترح "المجتمعات الآمنة البديلة" استمراريات مقلقة لخطط كانت الحكومة الإسرائيلية قد طرحتها في تموز (يوليو) لإنشاء "مدينة إنسانية" لاحتجاز جميع فلسطينيي غزة، وهي خطط شبّهها حتى بعض المنتقدين من الداخل بمعسكر اعتقال. وبينما "تعيد" الولايات المتحدة وإسرائيل إعمار غزة وفق شروطهما الخاصة، فإنهما تبدوان عاكفتين في المضي قدمًا في مثل هذه المشاريع، بما يؤسس لعقود إضافية من التهجير والحصار المفروضين على الشعب الفلسطيني.
في الحقيقة، كانت نتائج خطة ترامب قاتلة مسبقًا. منذ أن دخل وقف إطلاق النار في غزة، نظريًا، حيّز التنفيذ في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر)، أفادت التقارير بأن إسرائيل انتهكت شروطه أكثر من 500 مرة. كما تجاهلت علنًا بعض بنوده مثل اشتراط فتح معبر رفح بين غزة ومصر؛ وقد ألمح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مؤخرًا إلى أن حكومته قد تفتحه في نهاية المطاف، وإنما فقط للفلسطينيين المغادرين غزة. ويشكّل هذا الشرط خرقًا مباشرًا للاتفاق الذي ينص صراحةً على أن يُفتح معبر رفح "في الاتجاهين"، وأن يكون الفلسطينيون الموجودون خارج القطاع "أحرارًا في العودة".
ولعل الأكثر إثارة للقلق أنه خلال ما يُسمّى "وقف إطلاق النار" في الأسابيع الأخيرة، واصلت القوات الإسرائيلية إطلاق النار على الفلسطينيين في غزة، والذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 360 شخصًا، غالبيتهم من النساء والأطفال وكبار السن. وقد قُتل كثيرون منهم بذريعة "جريمة" عبور "الخط الأصفر" إلى المناطق الغزية الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية أثناء محاولتهم العودة إلى منازلهم وأحيائهم التي هجّرتهم منها القوات الإسرائيلية خلال عامين من الإبادة الجماعية. وعلى الرغم من ادعائها الالتزام بوقف إطلاق النار، فشلت إدارة ترامب في إدانة هذه الانتهاكات المتكررة، ناهيك عن منعها.
وكما هو الحال في الخطط "الدولية" السابقة الخاصة بفلسطين -من أوسلو إلى "صفقة القرن" التي طرحها جاريد كوشنر- يجري تقديم مكاسب إسرائيل في خطة ترامب على أنها تنازلات، بينما تُصوَّر خسائر الفلسطينيين بوصفها مكافآت. وكما هو واضح، يعمل الانشغال الغربي المستمر بتصورات إسرائيل للأمن، مقرونًا بسعي الأطراف الخارجية الوقح إلى تحقيق مصالحها السياسية والمالية الخاصة، على إبقاء التركيز بعيدًا بشكل مطّرد عن حقوق الإنسان، فضلًا عن العدالة التصحيحية. وبينما تستخدم إسرائيل غطاء اتفاق "دولي" جديد آخر للاستيلاء على مزيد من الأراضي وفرض وقائع جديدة على الأرض، فإن كل ذلك يحدث -مرة أخرى- على حساب الشعب الفلسطيني.
*آن إرفان Anne Irfan: مؤرخة وباحثة بريطانية متخصصة في تاريخ فلسطين المعاصر، خاصة قطاع غزة، والسياسات الدولية المرتبطة بالقضية الفلسطينية. تعمل محاضِرة في التاريخ الدولي وتاريخ الشرق الأوسط، وتركّز أبحاثها على دور الأمم المتحدة، واللاجئين الفلسطينيين، والحوكمة الدولية، والإغاثة الإنسانية في السياق الاستعماري وما بعد الاستعماري. صدرت لها في العام 2023 دراسة مرجعية بعنوان "تاريخ موجز لقطاع غزة" A Short History of the Gaza Strip، تُعتبر من أهم الأعمال الحديثة التي تتناول غزة في بعدها التاريخي والسياسي الدولي. كما تنشر بانتظام مقالات تحليلية في مجلات أكاديمية ومنصات فكرية وصحفية مرموقة.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: How Trump’s Gaza Plan Is Enabling Another Israeli Land Grab