الغد
تشير التجارب المتراكمة في إصلاح القطاع العام إلى فجوةٍ يتكرّر ظهورها في العديد من الدول والقطاعات، وتتمثل في الهوّة العميقة بين النماذج النظرية اللامعة كما تقدّمها الكتب والمراجع الأكاديمية، وبين الواقع العملي المركّب الذي تعيشه المؤسسات الحكومية يوميًا.
فالنظرية غالبًا ما تُصاغ على أساس بيئات محددة تمتلك نظمًا واضحة في محيط مسيطر عليه، مفترضةً وجود هياكل حوكمة فعّالة، وثقافة مؤسسية قادرة على استيعاب التحوّل.
لكن ما إن تنتقل هذه النماذج إلى واقع مختلف، يعاني من تعدد مراكز القرار، وتداخل الصلاحيات، وضعف البيانات، ومحدودية الموارد، وديناميكيات الصراعات السياسية، حتى تبدأ تلك النماذج بالتصدّع، وقد تفقد جزءًا كبيرًا من صلاحيتها إن لم يتم تخصيصها وتكييفها بشكل صحيح لتلائم السياق المحلي.
ويتفاقم هذا الإشكال عندما تتدفق إلى الحكومات موجات من الحلول الجاهزة التي تقدمها بعض شركات الاستشارات العالمية، والتي تُسوّق مشاريعها باعتبارها وصفات متكاملة وقابلة للتطبيق في أي سياق. إلا أن معظم هذه المنتجات لا تتجاوز حدود إعادة تدوير نماذج غربية جاهزة لا تراعي الخصوصية المؤسسية أو التشريعية للدول التي تتلقى تلك التقارير.
ومهما كانت جودة تصميمها وشكلها الخارجي، تبقى محتوياتها في الغالب بعيدة عن الواقع الفعلي، لا تستند إلى تحليل معمق ولا فهم للسياق، ولا تأخذ في الاعتبار التحديات التشريعية أو السياسية أو الثقافية أو الهيكلية التي تحدد إمكانيات العمل الحكومي.
الأسوأ من ذلك أنّ بعض المسؤولين يتعاملون مع مثل هذه التقارير القادمة من شركات عالمية باعتبارها حقائق مُسلّمًا بها، ويمنحونها شرعية تلقائية فقط لأنها تحمل اسمًا كبيرًا، وكأن توقيع الشركة يكفي ليضمن جودة التوصيات ودقة التحليل، وهو افتراض لا يخلو من السذاجة، ويعطّل التفكير النقدي، ويُقصي الخبرة المحلية التي تمتلك فهمًا أكثر دقة للسياق وأعمق معرفة بالتفاصيل اليومية التي تحكم عملية التنفيذ.
إن الإيمان المطلق بالنماذج النظرية، أو الانبهار الأعمى بالحلول المعلّبة، يعكس في جوهره غيابًا لفهم طبيعة الإصلاح الحقيقي، الذي لا يقوم على استيراد الوصفات الجاهزة ولا على تكرار التجارب الأجنبية حرفيًا، بل على قراءة دقيقة للسياق المحلي وتحديد العوامل المؤثرة فيه.
فقد أثبتت التجربة أن الإصلاح الناجح يبدأ دائمًا من الداخل بينما يستأنس بتجارب الآخرين، ويعتمد على تعزيز فهم المؤسسات لذاتها ولمشكلاتها، ويسعى للتعلم من التوجهات العالمية، ويعمل على إشراك كوادر المؤسسات في صياغة حلول واقعية قابلة للتنفيذ، دون الاعتماد كليًا على نماذج مفروضة من الخارج مهما كانت براقة.
كما أثبتت أن أبناء المؤسسة ليسوا أقل وعيًا أو قدرة من مستشاري الشركات العالمية، بل يمتلكون ميزة لا يمكن لأي جهة خارجية أن تمتلكها، وهي المعرفة الحقيقية بالتعقيدات اليومية للعمل الحكومي.
من هنا، يصبح لزامًا على صانع القرار أن يتبنّى مقاربة مختلفة في تعامله مع جهود الإصلاح؛ مقاربة تنطلق من احترام خصوصية السياق، والاعتماد على البيانات الحقيقية لا الافتراضات، وإدراك أن أي نموذج مهما كان متقدمًا لن ينجح ما لم يُعاد تصميمه بما يتناسب مع البيئة السياسية والإدارية والاجتماعية التي سيُطبّق فيها.
فالإصلاح ليس سباقًا نحو اختيار النموذج الأكثر بريقًا، ولا بحثًا عن تقريرٍ يحمل اسم شركة عالمية ليعامله المسؤول ككتاب منزل، بل هو عملية تراكمية تتطلب قدرة على الفهم والنقد والتكييف والتجريب.
وما لم تُصمَّم الحلول من الداخل، وبالتشارك الحقيقي مع المؤسسات نفسها، ستظل الإصلاحات شكلية، وستظل التقارير الأجنبية مجرد قوالب جاهزة لا تضيف أي قيمة حقيقية ولا تترك أي أثر مستدام.