الدستور
لم أكن أتخيل يوماً أن أرى في وسط البحر الأبيض المتوسط مشهداً يشبه إلى حد بعيد تلك السفن التي مَخَرَت عباب البحر من إسبارطة لمهاجمة طروادة، وهو مشهد أسطوري خلّاب جاذب للنظر في فيلم «تروي»، لكن كل تلك السفن - إلا القليل منها الذي جاء في مقدمة الأسطول - كان من صناعة الكمبيوتر، ولم تكن صور السفن كثيرة العدد في المشهد من أرض الواقع، أو من بحر الواقع، وإنما خدعة درامية بصرية ليس أكثر، ولكن مشهد أسطول الصمود الذي يبحر الآن في البحر الأبيض المتوسط، رافعاً أعلام فلسطين خفاقة، ليس من صنع الخيال، إنها أكبر مسيرة سفن تتوجه إلى غزة، وإلى أراضي فلسطين منذ الهجرة الأولى، وإن علم فلسطين أكثر الأعلام التي رفرفت على سطح الأزرق الصافي عبر تاريخه الأزلي الطويل.
إن هذه المسيرة البحرية المظفّرة التي تضم سفناً وقوارب صيد من عدد كبير من الدول، وتحمل على متنها نشطاء لهم وزنهم وثقلهم في دولهم، لا يستهان بتأثيرها في الأوساط الإعلامية، والشعبية العالمية، وبخاصة الشبابية منها، ومن أبرز هؤلاء الناشطين: الممثلة الأميركية سوزان ساراندون، والممثل الإيرلندي ليام كانينغهام، والمغنية الإيطالية فيوريلا مانوا، والممثل الأميركي مارك روفالو، والمؤرخ الإيطالي أليساندرو باربيرو، وعضو اللجنة التوجيهية الناشطة التركية ياسمين أكار، وعضو اللجنة التوجيهية الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ، والنائب الإسباني خوان بورديرا، والناشط البرازيلي ثياغو أفيلّا، وهو عضو اللجنة التوجيهية كذلك.
وبالأمس خرج سكان مدينة جنوة الإيطالية عن بكرة أبيهم لوداع سفينة الصمود التي ستنطلق نحو شواطئ غزة وهم يرددون بالإيطالية: «غزة أنت لست وحيدة»، وينشدون النشيد الثوري الشهير «بيلا تشاو» الذي كان الناس ينشدونه لثوار بلادهم ضد قوات الاحتلال النازي، وسيرافق الأسطول كذلك سفينة تحمل اسم الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وتتركز مهمتها الأساسية بمراقبة السفن، ورصد الانتهاكات التي يمكن أن يتعرض لها الأسطول؛ إنها «شيرين»؛ تلعب دور «حنظلة»؛ الشاهد على العصر على سطح بحر هو بحرها وبحره.
إن الدلالات التي تحملها سفناً متعددة الجنسيات، تتوجه عبر البحر الأبيض المتوسط؛ نافذة فلسطين التاريخية على أوروبا، والتي أغلقت في وجه أهل فلسطين منذ النكبة الأولى، هي دلالات عميقة ومؤثرة في الوجدان الإنساني، وهي رمز من رموز رحلة العودة إلى شواطئ يافا وحيفا وعسقلان وعكا التي خرج من موانئها الفلسطيني قسراً، وأحياناً على متن سفن شحن مغلقة كسجون إسرائيل، - كما حدث في حيفا - واليوم تأتي الرمزية في رحلة تحمل معاني العودة على متن سفن صيد شراعية أو كبيرة تقودها محرّكات، ولكنها بمجموعها وهي ترفع على الصواري أعلام فلسطين ترفرف على السواري، متجهة إلى شواطئ غزة، تبشّر برحلة عودة، تلك العودة التي هي حُلْم الفلسطيني في مخيمات الشتات، حُلْمٌ لم يفقد الأمل بالعودة إلى الأرض الأم وديار الأجداد.
ولم أكن أتخيل يوماً أن أرى وأسمع في شوارع تل أبيب متظاهرين ضد الحرب على غزة، وضد التجويع، وقتل الأطفال والنساء، أبداً لم أتخيل أنني سأسمع يوماً صوتاً يعظّم الإنسانية قيد أنملة في إسرائيل، ويطالب بوقف الحرب وعدم توسيع العدوان، ليس بسبب الخوف على مصائر الرهائن الإسرائيليين فحسب، وإنما رفضاً لهذا الحجم من القتل الذي وصل بلا ريب إلى مرحلة إبادة جماعية مفزعة مكتملة الأركان، ولم يأت هذا الصوت من فراغ، وإنما من هول ما شاهده الإسرائيلي من فظائع ارتكبها جيشه ضد المدنيين العزل في قطاع غزة تجاوزت كل مساحات الكراهية للفلسطيني، وعبرت إلى مساحة خلايا لم يستخدمها الإسرائيلي من قبل، ولم يلتفت إليها، وهي رفض هذا الحجم من سفك الدماء، وما لمسه الإسرائيلي من كراهية من شعوب الأرض، فارتفعت لأول مرة، ليس صور الأسرى الإسرائيليين فحسب، وإنما صور أطفال غزة القتلى بالقصف أو الجوع، ما عرّض هؤلاء إلى هجوم من مارّة إسرائيليين ليس لديهم أدنى شعور بالمسؤولية الأخلاقية أو التعاطف الإنساني، وهم يرون أن إسرائيل يجب أن تواصل المهمة القذرة حتى تقضي على كافة الغزيين، وتهجّرهم عن «الأرض الموعودة».
العالم يتغير؛ بلجيكا انضمت أمس الأول إلى فرنسا وبريطانيا، وأعلنت عزمها على الاعتراف بدولة فلسطين خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعن قرارها فرض عقوبات على إسرائيل، العالم كله يتغير، ربما ليس بالسرعة التي يجب أن تكون، نظراً لجسامة الأحداث، لكنه يتغيّر، وإسرائيل وحدها التي لا تتغيّر، وستجد نفسها وحيدة منبوذة في عالم متغيّر.