عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    05-Nov-2025

الخلود الرقمي وهم الحياة الثانية*رمزي الغزوي

 الدستور

منذ فجر التاريخ والإنسان يحدق في الموت كمن يحدق في مرآة الغياب، يبحث فيها عن وجهه الآخر. لكننا اليوم، في زمن الشاشات المتوهجة، بتنا نمد أصابعنا نحو تلك المرآة ذاتها لننقش عليها صورنا وصوتنا وذكرياتنا، علّنا نؤجل وداعنا، أو نخدع الفناء قليلا. كأن التقنية وعد جديد بالقيامة، ولكن على خوادم الإنترنت.
   في عصور الأسطورة، حاول جلجامش أن يسرق زهرة الخلود، فخذلته الأفعى. وفي عصرنا الجديد، نحاول أن نزرع زهرة مماثلة داخل ذاكرة الآلة. نكتب منشوراتنا، نصور وجوهنا، ونترك خلفنا ما يشبه الأثر، أملا بأن يظل أحدنا قابلا للحوار حتى بعد أن يصمت جسده. هكذا صار للموت امتداد رقمي، وللحياة نسخة ثانية، بلا نبض.
تبدو الفكرة براقة، لكنها تحمل خدعة محكمة. فحين يتحول الفقيد إلى حساب نشط، وصوت يولده الذكاء الاصطناعي، يلتبس على المكلومين الحاضر والماضي. هل هذا من نحب حقا، أم نسخة صماء تعيد ترتيب الكلمات القديمة؟ وهل ما تمنحه هذه التقنية عزاء، أم فخا يبقي الوجع مفتوحا على شاشة لا تنطفئ؟
لقد ألغت التقنيات صمت الموتى. صار لهم حضور يومي، يتحدثون، يبتسمون، ويكتبون رسائل لم يقولوها في حياتهم. بعض الشركات تروج لخدماتها بعبارة: «لن تضطر إلى قول وداعا»، لكنها لا تخبرنا أن ذلك الوهم يطيل العذاب، ويؤجل شفاء الفقد.
فما يفعله الذكاء الاصطناعي ليس خلودا، بل محاكاة للخلود أو ظل له. نسخة بلا خطأ ولا دمعة ولا حنين. وإذا كان الألم جزءا من وعينا، فإن محوه هو أيضا محو لإنسانيتنا. فهل نحن نبحث عن الخلود حقا، أم نهرب من معنى الحياة؟
ربما ينجح العلماء يوما في تحميل الوعي داخل آلة. لكن السؤال سيبقى ماثلا كجدار لا يمكن تجاوزه: من يكون ذلك الكائن الذي يتحدث بصوتنا بعد موتنا؟ وهل الحياة التي لا تخطئ تستحق أن تعاش؟ ولهذا ربما علينا قبل أن نطلب الخلود، أن نتعلم كيف نحيا، كون الحياة، مهما قصرت، لا تقاس بعدد الصور، بل بوهج اللحظة التي نحب فيها بصدق، ونخسر فيها بشجاعة، ونصمت فيها أمام سر الوجود، مبتسمين لها كما هي: ناقصة، لكنها حقيقية.