الدستور -
راهن البعض على انهيار الولايات المتحدة الأمريكية عقب استعصاء وهياج الرئيس ترمب ورفضه نتائج الانتخابات، سيما بعد وقعة الكونجرس وهجوم الغوغاء بسند من تحريضه وإذكائه لروح الشغب في مؤيديه. وحين قلت إن ترمب حالة عابرة في زمن عابر، وإنه سيرضخ ويخرج مرغما؛ سخروا من هذا؛ لأن في بالهم دولاً انهارت وتشظت بعد تشبث رؤسائها بكراسيهم ورغبتهم الجامحة للخلود في هيلمانها وسلطانها.
ربما حق لهم ذلك الرهان بعض الشيء. ففي عالمنا التالف أو التالث اعتاد الناس أن ينسحقوا وينمحقوا حين يتصارع كبارهم حول مكاسبهم ومناصبهم. واعتادوا أكثر أن لا رئيس سابق في عالمهم الملكوم بهذا المرض الأبدي. فالواحد منهم لا يتزحزح من قصره إلا إلى قبره، والشواهد أكثر من أن تعدّد أو تسرد.
السلطة غالية محبوبة ومرغوبة في النفس البشرية، والفطام منها صعب وقاس ومؤلم. وهذا ما عاناه ترمب الذي ظن للحظة أن لا أحد يقدر على نزع سوطه وصوته، ناسيا أن من أوصله إلى سدة الحكم سينزله عنها: الدستور وأحكامه، والديمقراطية وجذورها القوية.
ولهذا فلربما تمنى ترمب ذات لحظة هيام لو أنه كان زعيما في بلد من بلدان العالم التالف، عندها فقد كان يستطيع أن يخلد نفسه إمبراطورا مطلق الصلاحيات، مؤبد المكوث، غير محدود الأهواء، ولجعل من بلاده مزرعة أو حديقة خلفيه لبيته يمارس فيها حمقه غروره كيف يشاء.
وعليه يحق لنا أن نكبر ونقدر تلك الديمقراطية، التي ترفع الواحد في لحظة ليكون رئيساً، ثم تعيده مواطنا عاديا دون أية امتيازات أو استثناءات، وهذا ما لا يعرفه عالم مبتلى وموجوع بمن لا تفارقهم نزعات الامتطاء لخيل السلطة.
هناك رؤساء انسحق نصف شعبهم وأكثر، وتطشر في أصقاع الدنيا وتشرد في مخيمات لجوئها. دول أصبحت فاشلة بسبب تشبث هؤلاء بكرسيهم حتى خربت بلدانهم، وتفاقمت مشاكلها، وأشتعلت فيها الحروب والكروب. والسبب الكرسي والأبد.
اليوم يغادر ترمب عرشه كسيحا أخرس، فلا توقيع نافذ، ولا حبال صوتية مشدودة يطلق فيه تغريداته. يغادر تاركا درسا بليغا في أن الشعوب التي تحتكم إلى دستور متين لن تتعثر بدرجة مكسورة تنتاب دربها، ولن يعنيها صوت نشاز بزغ للحظة عابرة في سمفونيتها. مرحى للديمقراطية صانعة الازدهار.