عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Nov-2020

أحمد خالد توفيق في «نيتفليكس» وتناقضات الأدب «النظيف»

 القدس العربي-محمد سامي الكيال

نال الكاتب المصري أحمد خالد توفيق بعض الاعتراف النقدي والإعلامي قبيل وفاته بسنوات قليلة، رغم شعبيته الكبيرة بين فئات واسعة، والسبب ليس اكتشافه متأخراً من طرف المشرفين على التيار الثقافي الأساسي، بل لاعتبارات سياسية على الأغلب، فعقب ثورة يناير/كانون الثاني في مصر برز مصطلح «الشباب»، بوصفه عاملاً سياسياً واجتماعياً شديد الأهمية، وحاول كثيرون فهم كيف يفكر جانب واسع من جمهور الثورة، لم يتجاوز الثلاثين آنذاك.
توفيق، الذي ألصق به البعض لقب «عرّاب» الشباب، كان أحد الأصوات التي يمكن التواصل معها، لإعطاء تصور عما كانت تقرأه أجيال، ظُن أنها غير مسيسة تماماً، وصار بدوره يكتب المقالات السياسية بشكل كثيف، فازدادت أهمية التعرّف على ذلك الكاتب ذي الميول السياسية الناصرية، المحافظة جداً اجتماعياً وأخلاقياً وسياسياً، والمتهم بالتعاطف مع الإخوان المسلمين.
«الشباب»، الذين كتب توفيق عنهم ولهم، مفهوم ملتبس للغاية، فمن المفترض أن الأدب العادي غير موجه حصراً للكهول والعجائز، وبالتالي لا يوجد تصنيف شائع باسم «أدب الشباب»، إلا أن توفيق، وعدداً آخر من الكتّاب، عمل ضمن ما اعتبرته «المؤسسة العربية الحديثة»، دار النشر التي طبعت أعماله، شروعاً قومياً لتشجيع الشباب على القراءة، عن طريق صياغة نسخ عربية من الآداب التي تُصنّف غربياً ضمن الثقافة الجماهيرية Pop culture، بالمعنى الحداثي للمصطلح، خاصة أدب المغامرات والجاسوسية والخيال العلمي والرعب. عملية التعريب، أو التمصير، التي حرصت عليها المؤسسة، لم تكن فقط بغرض إيجاد نظائر محلية لشخصيات خيالية مشهورة، مثل أرسين لوبين وجيمس بوند، بل لإنتاج بديل آمن ونظيف، يناسب ما اعتُبر القيم الدينية والعائلية والوطنية القويمة لمتكلمي العربية. باختصار كان توفيق الكاتب الأكثر تميزاً ضمن مشروع لتقديم ثقافة مفلترة ومعقّمة لأجيال شابة، ظهر في فترة مقاربة لما عُرف في مصر بـ»السينما النظيفة»، وبدايات ظاهرة «الدعاة الدينيين الجدد»، ليساهم بتأسيس نوع من الصوابية الثقافية العربية، في فترة اتسمت بالجمود السياسي، مع نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحالي.
توفيق سعى للخروج من الإطار الشبابي الذي حُشر به، فكتب روايات «كبيرة»، حاول فيها أن يقول كل ما كان محظوراً عليه في «روايات الجيب». أما الجمود السياسي، الذي وسم فترة بداياته، فانتهى مع الربيع العربي، واليوم تتم إعادة تقديم أعماله ضمن شبكة نيتفليكس، التي توفر بالتأكيد هامش حرية أكبر، على الأقل في ما يتعلق بالتابوهات العربية، من المنصات الإعلامية الاعتيادية. رغم هذا فقد خرج مسلسل «ماوراء الطبيعة» أكثر «نظافة» وأقل إشكالية حتى من روايات الجيب، التي استُوحي منها، فهل من المحتم أن تكون الثقافة الجماهيرية العربية معقّمة لهذه الدرجة؟ وهل الصيغة التي قُدم بها توفيق كانت أمينة حقاً لمشروعه في الكتابة؟
 
تناقضات «العرّاب»
 
لم يكن أحمد خالد توفيق مجبراً على الكتابة «النظيفة»، فبعيداً عن روايات الجيب اتسمت مقالاته بأفكار محافظة للغاية، فدعا إلى علاج المثليين جنسياً، تحميل النساء جانباً من مسؤولية التحرش، اعتبار التجديف اعتداءً على قيم المجتمع، فضلاً عن أنه واصل تعقيم الأعمال الأجنبية التي ترجمها، حتى خارج منشورات المؤسسة العربية الحديثة، كما فعل في ترجمته لرواية «نادي القتال» لتشاك بولانيك. وهو بالتأكيد ابن بار للمؤسسة الثقافية المصرية الرسمية، التي تحيل البشر للمحاكم بتهم «ازدراء الأديان» و»الإساءة للرموز الوطنية وقيم العائلة».
إلا أن موهبة توفيق كانت أوسع من ذلك الإطار الضيق، وامتلاكه لأدوات حرفته بوصفه كاتباً، جعلته يفتح لنفسه ولقرّائه أفاقاً أكثر رحابة. لا يمكن لكاتب يود تعريف متابعيه بمنتجات ثقافية غربية شديدة التنوّع، من أدب أوسكار وايلد، الكاتب المنفي بسبب مثليته الجنسية، مروراً بسينما ستانلي كوبريك، المليئة بالعنف والجنس، وصولاً لموسيقى فرق الروك الأكثر «تهتكاً»، مثل فرقتي «كوين» و»كيس»، أن يبقى عند حدود «قيم العائلة المصرية»، مهما حاول، أو أن يظل مجرد فلتر ثقافي. في رواياته المتأخرة، وخاصة «سنجة»، صدم توفيق قرّاءه بعالم سوداي، مليء بالانحلال والقسوة والانتهاكات، وهو العالم الذي خرجت منه الثورة المصرية، الذي لا يشبه كثيراً الصورة المتخيلة لـ»ثقافة المجتمع»، كما تود أن تقدمها الأيديولوجيا السائدة.
 
مسلسل «ما وراء الطبيعة» جاء بعد حوالي عقد من الزمن على الانفجار الاجتماعي الكبير، المرافق للربيع العربي، وبعدما استطاعت السلطات المصرية إعادة ترميم نفسها نسبياً، بكثير من العنف والقمع، وبهيمنة أيديولوجية هشة، قائمة على التخويف من الفوضى.
 
تناقضات «العرّاب» تشبه إلى حد بعيد الطابع الملتبس للتحديث العربي: تطوير الأجهزة العنفية والأيديولوجية للدولة، عن طريق بناء جيوش وأجهزة أمنية ومؤسسات تعليمية وثقافية متينة، وفي الوقت نفسه إعادة إنتاج البنى الأبوية والدينية التقليدية، لأغراض الضبط الاجتماعي، والتأكيد على خصوصية ما، مقبلة من تقليد ثقافي عربي غير منقطع. وهو مشروع كثيراً ما أثبت تناقضه وفشله، فتطوير أجهزة الدولة جلب معه غالباً قيماً تحررية، تمردت على السلطوية العربية، في حين فشلت إعادة إنتاج البنى الأبوية بتطويع الحيوية الاجتماعية، واكتشف كثيرون أن «ثقافة المجتمع» ليست فقط القيم المحافظة لعائلات «الطبقة الوسطى» المدنية والريفية، بل كل أشكال الانفلات، التي تظهر أحياناً في أعراس الأحياء الشعبية، وأغاني المهرجانات، التي تحتفي بالجنس والمخدرات والكحول، والفيديوهات «الخليعة»، التي ينشرها المراهقون على تطبيقات مثل «تيك توك».
توفيق نفسه كان يدرك تناقض مشروعه، وعبّر عن ذلك بصيغ لا تخلو من الحدّة والمبالغة، فقد كتب في إحدى الشذرات القصيرة، التي كان ينشرها في كتيبات مستقلة: «مهما قالوا، فالصِدام بين الفن والدين مُحتّم في النهاية، ولابد للمرء أن يختار مُعسكراً». لا نعرف بالضبط المعسكر الذي اختاره «العرّاب»، ولكنه بالتأكيد لم يتوقف عن تذوق الفن وممارسته حتى وفاته.
 
ثقافة ثورة
 
بهذا المعنى فإن توفيق لم يرب فقط جيلاً من المحافظين ومحدودي الأفق الاجتماعي والأخلاقي، فقد استطاع فتح آفاق واسعة لكثير من قرّائه، الذين اطلعوا بفضله على عوالم ثقافية، لم تكن متاحة بسهولة في آواخر القرن الماضي. «العرّاب» لم يكن مجرد فلتر أخلاقي وأيديولوجي، بل تمتع بذائقة رفيعة، جعلته ينتقي لمتابعيه أفضل المنتجات الثقافية العالمية، والعديد من ثوار الميادين الأكثر تحررا كان من جمهوره.
ربما كان الخطاب السياسي والثقافي للربيع العربي قريباً بدوره من تناقضات توفيق: لم يستطع المحتجون، رغم رغبتهم الكبيرة بالتغيير الشامل، تجاوز الرطانة الوطنية والاجتماعية للأنظمة، التي ثاروا عليها، فظلوا تحت السقف الثقافي والديني والسياسي المقبول به ضمن التيار الأساسي. رغم هذا فإن الحيوية الاجتماعية، التي أطلقت الثورة، لم يكن من الممكن ضغطها بالخطاب السياسي المحافظ لأيام الاحتجاج الأولى، وانفجرت بشكل مشتت ولا مركزي في ما بعد، من خلال عشرات الحركات الاجتماعية والتجارب الثقافية الجديدة: إضرابات عمالية، مطالب للنساء والمثليين والأقليات، منتجات موسيقية وسينمائية وأدبية خادشة للحياء، أو خارجة عن الآداب العامة. ربما لم يكن توفيق مسروراً بكل هذا، وكثيراً ما تحدث عن إحساسه بالمسؤولية عما يقوم به الشباب، والمخاطر التي يتعرضون لها، رغم هذا يصعب إنكار أنه أحد من ساهموا بإطلاق مارد يصعب ترويضه: حيوية مجتمع فتي، بات من المستحيل حشره في قوالب الهيمنة الأيديولوجية لدولة الاستقلال العربية.
 
«ما وراء الطبيعة»
 
مسلسل «ما وراء الطبيعة» جاء بعد حوالي عقد من الزمن على الانفجار الاجتماعي الكبير، المرافق للربيع العربي، وبعدما استطاعت السلطات المصرية إعادة ترميم نفسها نسبياً، بكثير من العنف والقمع، وبهيمنة أيديولوجية هشة، قائمة على التخويف من الفوضى. ربما لو تمت استعادة أحمد خالد توفيق في سنوات سابقة، لكان سيُقدم بصورة أكثر انفتاحاً وإشكالية، تدفع التناقضات الموجودة في أعماله إلى نتائجها المنطقية. في المسلسل، الذي أخرجه عمرو سلامة، رأينا محاولة، غير موفقة تماماً، لصناعة عمل تشويقي يضاهي الأعمال الغربية، وإضافة بعض الأبعاد النفسية العميقة، التي قد تقي المسلسل من الاتهام بأنه مجرد عمل مستوحى من الأدب الجماهيري السطحي. النتيجة كانت معقّمة تماماً، ضيعت كثيراً من الإشارات والتلميحات التي كانت تفلت من توفيق، أو يضعها بوعي، بين سطور رواياته الموجهة لـ»الشباب». سلسلة «ما وراء الطبيعة»، التي باتت اليوم أيقونة في الثقافة الجماهيرية العربية، لامست، بشكل شديد التهذيب، كثيراً من القضايا الإشكالية: الدين، الجنس، البنى الاجتماعية، الفلكلور الشعبي، السياسة والسلطة. وبدلاً من استثمار هذه الإمكانيات، وتثوير كتابات توفيق، عن طريق تقديم قراءة إشكالية له، كانت قراءة صنّاع المسلسل أقرب لمنطق الثورة المضادة، فصار «رفعت اسماعيل»، بطل السلسلة الشهير، أشد تدجيناً بكثير من نسخته الأصلية، مع لمسة اكتئاب وانكسار، قد تناسب المزاج العام لمرحلة ما بعد الثورة.
رغم كل هذا فاستعادة توفيق، والأدب الجماهيري العربي، المنبوذ من التيار الثقافي الأساسي، قد تفتح المجال لإعادة قراءته وتقديمه مستقبلاً بصور أكثر تنوعاً وتحرراً، ولعل هذا أهم ما حققه صنّاع المسلسل.
 
٭ كاتب من سوريا