"خارطة مادبا الفسيفسائية" للباحث غانم.. نافذة الفن والمعرفة الجغرافية
الغد-عزيزة علي
يكشف كتاب "خارطة مادبا الفسيفسائية"، للباحث المهندس أديب غانم، عن الخريطة في مدينة مادبا الأردنية، التي هي إحدى أقدم الخرائط الفسيفسائية في العالم، التي توثق الأرض المقدسة كما كانت في العصور البيزنطية.
كما تظهر خريطة مادبا الفسيفسائية، تلك اللوحة الحجرية التي تجمع بين الفن والمعرفة الجغرافية والتاريخية، وتفتح نافذة نادرة على المدن والمواقع التي عاش فيها وبشر السيد المسيح.
يقول المؤلف أديب غانم في مقدمة كتابه "إن قصة اكتشاف "خارطة مادبا الفسيفسائية"، تعود إلى العام 1880م، حين جاءت عائلة مسيحية من الكرك إلى مادبا، وسمحت لها السلطات العثمانية آنذاك بالإقامة فيها. وفي العام 1884م، حصلت العائلة على فرمان (تصريح) من السلطات العثمانية لبناء كنيسة جديدة فوق أنقاض كنيسة بيزنطية قديمة مهدمة. وخلال أعمال البناء تم الكشف عن الخريطة الفسيفسائية التي عرفت لاحقا باسم "خارطة مادبا الفسيفسائية".
وبعد ذلك، توالت أعمال الترميم والدراسة للخريطة على يد عدد من العلماء الأجانب، وفي تلك الفترة بنيت كنيسة جديدة فوق الخريطة الفسيفسائية، بهدف الحفاظ عليها، وقد كرست هذه الكنيسة للقديس جاورجيوس (الخضر). وأشار المؤلف إلى أن هذا الكتاب يأتي بوصفه مدخلا أوليا للباحثين والدارسين وعموم القراء، بغية تقديم فكرة عن أهمية الخريطة من الناحية الطوبوغرافية والأثرية والثقافية والدينية.
ثم يتحدث غانم عن اسم مادبا، فيوضح أن اسمها (ميدبا) موآبي الأصل، وقد يعني "مياه الراحة". وقد ورد ذكرها مرات عدة، في الكتاب المقدس، كما ذكرت أيضاً في "مسلّة ميشع". ويشير إلى أن العبرانيين استولوا عليها آنذاك وخصصوها لسبط رأوبين.
ويشير المؤلف إلى أنه بعد انتشار الديانة المسيحية في تلك النواحي، أصبحت مادبا مركزا أسقفيا. وقد ذكرها كل من يوسابيوس وجيروم (إيرونيموس) باسمها القديم "ميدبا"، كما ورد ذكرها في أعمال المجمع الخلقيدوني المنعقد العام 451م، وفي مراجع كنسية أخرى. أما المدينة القديمة، فهي موقع مدمر يقع على بعد نحو ستة أميال جنوب حشبون (حسبان)، وكانت متصلة بطريق روماني. وتعود أبرز آثار مادبا إلى العصر المسيحي، ومن بينها خزان ماء كبير، جاف حاليا، تبلغ أبعاده نحو 97 × 92 مترا وبعمق يقارب أربعة أمتار.
ويذكر غانم أن خريطة مادبا تمتد على جزء من أرضية كنيسة بيزنطية قديمة تقع في وسط المدينة، وهي الكنيسة المكرسة للقديس جاورجيوس (الخضر). وتقدر المساحة المتبقية من الخريطة اليوم بنحو (15.75 × 5.60 م)، في حين أن مساحتها الأصلية كانت تبلغ حوالي (21 × 7 م). وتشكل مدينة القدس (أورشليم) مركز هذه الخريطة، أما اتجاهها الجغرافي فهو نحو الشرق، بخلاف الاتجاه الشمالي المعتمد في الخرائط الحديثة.
فعند دخول الكنيسة من الباب الغربي، تبدو الخريطة الفسيفسائية أمام الزائر مباشرة. وتظهر في أعلاها الضفة الشرقية لنهر الأردن، تليها الضفة الغربية، وفي مركزها مدينة القدس "أورشليم". وتضم الخريطة مواقع متعددة في فلسطين والأردن وفينيقيا (لبنان) ومصر، وهي المنطقة التي عاش فيها السيد المسيح وبشّر وصعد إلى السماء.
وتجدر الإشارة إلى أن حدود الأرض المرسومة في خريطة مادبا لا تمثل "أرض الميعاد" كما حددها الكتاب المقدس (خارطة 2)، إذ إن أرض الميعاد –بحسب النص التوراتي– محصورة بين نهر الفرات ووادي العريش، حيث يوجد "نهر مصر"، وهو نهر موسمي اعتقد كثيرون خطأ أنه نهر النيل.
كما تظهر الخريطة مدينتي صور وصيدا في الجليل الفلسطيني، ووادي الأردن، والشاطئ الشرقي للبحر الميت وغور الأردن، إضافة إلى نابلس وبيت لحم، ومواقع على البحر الأبيض المتوسط، فضلا عن مواقع في دلتا النيل مثل دمنهور. وهكذا تعكس الخريطة صورة شاملة للأرض المقدسة التي ولد وعاش وبشر فيها السيد المسيح.
ويبين المؤلف أن تاريخ إعداد الخريطة الفسيفسائية في مادبا يعود إلى القرن السادس الميلادي، وتحديدا في فترة حكم الإمبراطور جوستنيان (527–565م). ومن الجدير بالذكر، أن الخريطة تظهر الكنيسة الجديدة في القدس (أورشليم) المعروفة باسم "ثيوتوكس"، والمكرسة للعذراء مريم بتاريخ 20/11/542م، وهو ما يؤكد أن إنجاز خريطة مادبا تم في الفترة الواقعة ما بين العامين 542 و565م.
ويرى غانم، أن الخريطة تحوي تفاصيلا دقيقة للعديد من المدن الكبرى مثل القدس (أورشليم)، نابلس وغزة، إضافة إلى مواقع أخرى مثل سوخار (عسكر)، إيلون (بالو)، الكرك، وغيرها من المواقع العديدة. وتمتاز الخريطة عن الخرائط المعاصرة باعتمادها على رسم الأبنية وإظهار المخططات المعمارية للمواقع، في أسلوب يقترب من فن الرسم الحديث، حيث يمكن تتبع الأبنية الرئيسية والشوارع كما كانت قديما، ومقارنتها بواقع المدينة الحالي، مما يجعلها مرجعا مهما للباحثين والمتخصصين.
كما يوضح المؤلف أهمية خريطة مادبا، مشيرا إلى أنها تكتسب قيمتها الاستثنائية من كونها الخريطة الوحيدة التي قدمت معلومات جغرافية وطوبوغرافية عن فلسطين القديمة وبقية الأراضي المقدسة التي عاش فيها السيد المسيح في الفترة البيزنطية. فهي تظهر شرحا وافيا عن المدن الرئيسة في فلسطين والأردن وسورية ولبنان ومصر، إضافة إلى معطيات عن الطبيعة والجبال والأنهار والبحار، فضلاً عن تفاصيل تتعلق بالنقل البحري والصيد والزراعة وغيرها.
ويرى المؤلف أنه بعد الدراسات العديدة وعمليات الترميم التي أجريت على الخريطة والكنيسة القديمة منذ العام 1896م، تم رصد نحو 148 موقعا على الخريطة في وضعها الحالي، ومن المؤكد أن عدد المواقع الأصلية كان أكبر من ذلك قبل تلف جزء من الخريطة.
ويشير غانم إلى أن أول من كتب عن خريطة مادبا كان كاهنا مسيحيا من القدس (أورشليم)، حيث زار مادبا، ورسم الخريطة وسجل ملاحظاته عنها، ثم عاد بها إلى القدس وطبع كل ذلك في كتيب مكون من 26 صفحة، صدر في آذار (مارس) العام 1997. ومنذ ذلك الحين، توالت الكتابات والدراسات حول الخريطة، وتم وضع مخططات ورسوم تفصيلية عنها.
ويشير المؤلف إلى أن هناك وثائق مهمة تتعلق بخريطة مادبا محفوظة في مكتبة السوريين، ومكتبة الكونغرس في واشنطن، وكذلك لدى معهد الفرنسيسكان للآثار في القدس (أورشليم). وتجب الإشارة، إلى أن الخريطة كانت دائما عرضة للتفسيرات والأبحاث ذات الطابع الأيديولوجي المتعلقة بفهم جغرافية الكتاب المقدس والأماكن الدينية والتاريخية. ومن أبرز الدراسات المنشورة، كتاب الباحثة الألمانية ميخائيلي الذي صدر العام 1991، الذي تناول الخريطة بشكل جامع.
كما توجد نسخة من خريطة مادبا الفسيفسائية في المعهد الأثري بجامعة جوتنجن في ألمانيا، تم إعدادها خلال أعمال الترميم في مادبا العام 1965 بواسطة علماء آثار ألمان. وهناك نسخة أخرى أنشأها طلاب "مدرسة فسيفساء مادبا"، ووضعت في المدخل الرئيسي لمتحف بمدينة بون في ألمانيا.
وعن منهجية الكتاب، أوضح غانم، "لقد تم اتباع المنهجية الآتية، في هذا الكتاب لتسهيل قراءة ودراسة خريطة مادبا الفسيفسائية بأسلوب علمي. لذلك جاء الكتاب باللغة العربية لتمكين القارئ والدارسين العرب من الوصول إلى المعلومات التي توفرها الخريطة بسهولة ويسر، وقد اتبعت المنهجية الآتية:
"ترقيم المدن والمواقع: تم ترقيم جميع المدن والمواقع والنقوش الواردة في خريطة مادبا، وتثبيت هذه الأرقام على خريطة جغرافية، متبعا الترقيم الذي استعمله "هربرت دونر"، في كتابه "خريطة موزاييك مادبا".
إعداد خريطة لكل موقع ومدينة: باستخدام برنامج Bible Mapper Ver 5.1، تم تثبيت أسماء المواقع على الخريطة باللغة العربية كما هي معروفة حالياً، أو كما وردت في الكتاب المقدس وفي ترجمة "سميث فان دايك".
كما تم تدوين الأسماء باليونانية والإنجليزية: كتابة اسم كل موقع بالأحرف اليونانية الكبيرة كما ورد في خريطة مادبا، وأيضا بالأحرف اليونانية الصغيرة، تثبيت أسماء المدن والمواقع باللغة الإنجليزية كما وردت في كتاب "هربرت دونر"، استخدام برنامج خرائط "جوجل"، لتحديد مواقع وإحداثيات بعض المدن والمواقع المذكورة في الخريطة.
تثبيت أسماء المدن والمواقع باللغة الإنجليزية، فقد ثبتت في الكتاب كما وردت في كتاب (هربرت دونر) "خريطة مادبا الفسيفسائية"، واستخدم برنامج خرائط "جوجل" للحصول على مواقع وإحداثيات بعض المدن والمواقع المذكورة في خريطة مدبا.
تكملة الحروف الناقصة أو التالفة: تم وضع الحروف المستكملة داخل أقواس، لتمييزها عن الأحرف الأصلية، والدلالة على أنها أضيفت لغرض التعرف على اسم الموقع، مثل موقع "عين نون" القريب من سالم.
وفي خريطة مادبا عند تسمية المواقع: "السطر الأول يحتوي على الأحرف اليونانية الكبيرة كما هي على الخريطة، والحروف بين أقواس أضيفت لأنها تالفة أو غير واضحة. السطر الثاني: يحتوي على الاسم بالأحرف اليونانية الصغيرة. السطر الثالث: يحتوي على الاسم مترجما إلى اللغة الإنجليزية أو كما هو متعارف عليه حاليا.