الغد
"يجب أن نفرق بين مجال اهتمامنا الواسع وبين حدود تأثيرنا؛ فدائرة التأثير صغيرة مقارنة بدائرة اهتمامنا، لكنها تكبر وتتوسع بمقدار الهمة والإرادة، وامتلاك أدوات العمل والعطاء، فالسواد الأعظم يهتم بالشؤون العامة ولكن قلة هم المؤثرون. والمطلوب توسيع دوائر التأثير على حساب دوائر الاهتمام... الأثر لا يحتاج أن نعمَّر طويلا حتى نتركه أو نملك ثروة طائلة أو علما وفيرا أو منصبا رفيعا، وإنما يحتاج قلبا نقيا وإرادة تسمو على الصغائر، ويحتاج بعض الأدوات كالقراءة وعلو الهمة والتغافل وتخير ما يليق من الأقوال والأفعال...".
هذه العبارات جاءت عبر برنامج "من القلب إلى القلب" على لسان الدكتور علي الحجاحجة معدّ البرنامج ومقدمه، وهو برنامج يبث عبر أثير التلفاز الأردني، يتضمن إضاءات قيمة وأبعادا إنسانية تنموية متنوعة قريبة للقلب والعقل معا.
إحدى هذه الحلقات جاءت لتقدم مقاربة بين دوائر الاهتمام ودوائر التأثير وما يتمخض عنها من قدرة الأفراد على ترك الأثر والبصمة في المجالات كافة، وهي مقاربة إنسانية تنموية إدارية تستحق الوقوف عندها مطولا والتأمل في مضامينها؛ فهي تعكس خلاصة جوهرية لما هو كائن وما يتوجب ان يكون في عالم اصبحت اهتمامات الأفراد فيه لا تسعى نحو إحداث تأثير حقيقي بقدر ما تسعى الى تحقيق مصالح ضيقة، لا ترقى لإحداث أثر أو ترك رسالة يستكملها الآخرون أو على أقل تقدير تكون لهم منارة وقدوة عمل.
التأثير والقدرة على ترك بصمة أو أثر ما، قيمة إنسانية تخلف آثارا على المجتمعات وتساهم في النهوض بها وهي المحرك اللأساسي لمبدأ المبادرة، والمبادرة هي قمة ما يمثله العطاء اللإنساني سواء على صعيد العمل أو المجتمع أو في أي مجال من المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
هذه القيمة تتطلب أن تنشأ الأجيال على مضامينها وهو امر لا يتأتى إلا بسياسات عامة تعلي من شأن هذه القيمة، وتجعل من ادماجها في المناهج التربوية والانشطة اللامنهجية نهجا متسقا متسلسلا يراعي الفئات والاعمار كافة، ما يؤدي الى جيل يمتلك ادوات التغيير ويمتلك أدوات المبادرة ويمتلك ادوات المواطنة ويمتلك قيما تجعل منه جيلا مبادرا وبالنتيجية مؤثرا، تظهر بصماته في كل مكان.
على أرض الواقع، الفجوة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون وبقاء هذه الفجوة قائمة رغم العديد من محاولات الاصلاح خاصة على المستوى الاداري والمؤسساتي، ينبع بصورة كبيرة واساسية في كثير من الأحيان من أن الأفراد يمنحون مساحات واسعة لدوائر اهتمامهم وهي دوائر ذات أفق محدود، ولا يمكن ان تحدث تأثيرا طويل الأمد لارتباطها بمصالح شخصية، في حين أن الانتقال إلى دائرة التأثير التي تضع رؤية أكبر ورسالة من شأنها الاستمرار وإحداث التغيير، تلك المرحلة التي تعنى بترك أثر يمتد لأجيال قادمة هو انتقال محدود ويمارسه القلة.
ومهما وضعت نظريات للتغيير الإداري والمؤسسي وتغيير المجتمعات والانتقال بها على المستويات كافة، ومهما تعددت هذه النظريات فإن تطبيقها واقعا لا يمكن أن يحدث التغيير المنشود دون غرس قيمة ومفهوم التأثير وجعله جزءا من بناء الشخصية الإنسانية للأفراد؛ هذا البناء الشخصي للإنسان المؤثر والفاعل، الذي لا يقبل أن يكون رقما وإنما نوع قادر على ترك الأثر والبصمة التي تدل الآخرين على المسار الصحيح من بعده وتضع علامات على الطريق ليضمن وصول من يأتي خلفه فلا يضل.
قيمة الأثر هي من تصنع الأفراد القادة والمؤسسات القيادية وهي من تعمل بالنتيجة على قيادة التغيير شيئا فشيئا، ومع كل بصمة وأثر يتركه أحدهم نرى المجتمعات تنمو وتزدهر، فالتغييرات الكبيرة في العالم، إنما حدثت بسبب إيمان والتزام الأفراد المدافعين عنها، وبفعل دوائر التأثير التي اتسعت فتركت الأثر والبصمة في آن واحد.
في الواقع برنامج "من القلب إلى القلب" من البرامج القليلة التي تمتلك رسالة ورؤية واضحة، وقيمة نوعية تعد أيضا أداة من أدوات التغيير، ويشكل بحد ذاته بصمة وأثرا بمضامينه العميقة المتأصلة.