عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    28-Feb-2025

سر المياه العميق| جواد العناني

العربي الجديد

د. جواد العناني-


27 فبراير 2025


أفاقت عمّان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية صباح يوم الأحد الماضي على شمس ساطعة، ومناظر خلابة للناظرين من الشبابيك، خوفاً من البرد القطبي، وطمعاً في ماء يروي الأراضي العطشى التي تنتظر ذلك الماء على أحرّ من الجمر. التربة والماء كأنهما "مُشتاقة تسعى إلى مشتاق"، واحتضانهما ينبت الربيع الساحر الذي تزهو به التلال بدءاً من آخر الشتاء إلى بداية فصل الربيع، تطبيقاً لوصف البحتري في قصيدته عن الربيع: "أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً... من الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَلَّما، وَقَد نَبَّهَ النَوروزُ في غَلَسِ الدُجى أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُوَّما".

ولكن أهل الأردن الذين يمضون ساعات طوال يتحدثون عن الماء وندرته صاروا يتفاءلون بمقدمه ويتشاءمون بغيابه، وحتى بعض رؤساء الوزراء لم يسلموا من النقد، فقد قيل عن أحدِهم إنّ سَنةَ فلان…..، لا قمح ولا شعير. وقلة الماء هذه الأيام مرتبطة بالحصاد من الزيتون والخضار والفواكه، خاصة الحمضيات والأسكيدنيا وغيرها من الفواكه شبه القارية، ولم تعد كمية المياه هي المسؤولة عن حجم المحصول بل الأهم هو توقيت هطول المطر، ومدى درجة التجمد التي وصل إليها الطقس، إذ إن الانجماد سببٌ في إتلاف المحصولات وهي محمولة على أغصان أمهاتها.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد ليصل أسلوب تعاملنا مع المياه، فالبعض يرى أن ما يحقق مصلحة المياه الاستراتيجية للأردن هو الاعتماد على الذات، وبناء مخزون من المياه يغطي جميع مناطق المملكة، أما آخرون فيرون أن الوسيلة المثلى تتجلى في التعاون مع دول الجوار خاصة في المياه الجوفية الموجودة في الأحواض المشتركة.

تجمع الأردن مع فلسطين التاريخية أحواض الماء التابعة لنهر الأردن وفروعه التي تصب فيه، خاصة نهر الزرقاء ونهر اليرموك ونهر الأردن. ويجمعنا كذلك نهرا اليرموك والأردن مع سورية، وتجمعنا مياه البَحرَين الأحمر والميت مع إسرائيل والضفة الغربية المحتلة، وتجمعنا مياه الديسي في جنوب وشرق المملكة مع أحواض المياه الجوفية بالمملكة العربية السعودية.

ومع أن العراق والأردن جاران في غرب العراق وشرق الأردن، إلا أن التعاون المائي بينهما محدود، والعراق الذي تعرضت مياهه للنهب الواضح سواء من تركيا (سدود أتاتورك التي تفوق 23 سداً) والسدود على نهر الفرات، أو من تطاول إيران على مياهه، وقد تحول نهر دجلة في بغداد إلى مجرى ماء سطحي لا يسرّ الناظرين.
تزايد الجفاف في الأردن، 10 أبريل 2021 (Getty)
اقتصاد عربي

ارتفاع فاقد المياه في الأردن لأكثر من 46%

ومن العجيب أن الدول العربية في شمال أفريقيا وبلاد المشرق العربي، تصب فيها أنهار هامة وهي النيل ودجلة والفرات والأردن. أما القطر الأردني يقع على آخر خطوط هذه الأنهار وهي الشريك الأدنى (Lower Riperian). وهذا الحال ينطبق على نهر الأردن في الأردن، ونهر النيل في مصر والسودان، ونهري دجلة والفرات في سورية والعراق، وقد أطمع دول الجوار فينا أمران؛ أولاً الخسارة الفادحة التي تكبدناها في حرب عام 1967 التي يقال إنّها كانت أصلاً حرب مياه، والثاني هو أننا تركنا الزراعة وأهميتها للحفاظ على أمننا الغذائي ولم ننجح في تطوير مصادرها.

وأذكر أنني كنت رئيساً لوفد الأردن في أواخر عام 1984 لحضور مؤتمر التنمية والتكنولوجيا برئاسة الرئيس التركي العلماني آنذاك كنعان إفرين، الذي جاء إلى الحكم بعد انقلاب عسكري على الحكم المدني بعد فشله في ضبط الأمن عام 1981، ولأن المؤتمر كان إسلامياً فقد امتنع رئيس الجمهورية إفرين عن ترؤسه، فترأسه رئيس الوزراء آنذاك الراحل تورغوت أوزال، وأنا كنت مقرّر المؤتمر، وأثناء إحدى الجلسات وشوش الرئيس أوزال في أذني قائلاً: "لقد كان السوريون قبل الانقلابات الحزبية الأخيرة أكفأ منّا في إدارة الأرض وزراعتها، أما الآن فالأمر مختلف، وأنتم لا تستخدمون أرضكم ولا الماء الذي يأتيكم، فما رأيكم أنتم الأردنيون أن تقيموا مصنع سماد من الفوسفات والبوتاس لصالحنا، وتستبدلوا أثمانه منّا بالقمح والشعير والنباتات الحقلية، وتتركوا لنا الماء لكي نزرع أراضينا، وانسوا سورية فهم لا يريدون العمل"، فرفضت طبعاً ذلك، وشعرت بالإهانة كعربي، وأدركت كيف يمكن للآخرين أن يتعاملوا معنا.

إذا لم يكن لدينا الحافز ولا القوة لاسترجاع حقوقنا في المياه من الذين اغتصبوها منا، وهم إسرائيل وإثيوبيا وإيران وتركيا وحتى بعض الدول العربية، فإن السؤال الذي يُطرح على الأردن هو: كيف ستحلون مشكلة المياه إذن؟ والجواب الواضح هو أننا بحاجة إلى مشاريع مياه كبرى مثل الناقل البحري المقترح بناؤه من البحر الأحمر إلى شمال المملكة الأردنية الهاشمية بسعة 300 مليون متر مكعب يومياً، وبكلفة قد تصل إلى 1.4 مليار دولار على مدى ثلاث أو أربع سنوات، وبمنح من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية على شكل قروض سهلة، أو دعم مباشر لكلف المشروع.

وطبعاً هنالك مشروعات أخرى مطلوبة، ولا بدّ منها مستقبلاً، لكن افتراض استمرار حالة اللاحرب واللاسلم هي التي تجعل إمكانية الحرب قائمة على الأقل مرة كل عقد من الزمان، ما سيؤثر على ثبات استمرار التزويد بالماء في الأردن أو بتهديد ضرب المشروع.
تحديث شبكات المياه الأردنية ضرورة (أحمد عبده/فرانس برس)
اقتصاد عربي

الأردن في المراحل الأخيرة لتنفيذ أكبر مشروع للمياه

يعمل الأردن حالياً على تطوير إدارته لمصادر المياه ومواردها وحسن استخدامها، وتقليل المهدور منها وتقليل مقادير المياه المستخدمة في الزراعة، والتحول التدريجي بعيداً عن المحاصيل التي تحتاج كثافة ماء عالية لإنتاجها، والاستعاضة عن ذلك بأساليب قليلة الاستخدام للمياه، وقد نجحت وزارة الزراعة في تعميم استخدام (Hydroponics)، وهي طريقة تستخدم مزيجاً من المغذيات النباتية والأسمدة داخل الماء من أجل الزراعة، خاصّة زراعة الأعشاب الطبية، وكذلك بات البعض يستخدمها لزراعة الخضروات المستهلكة في المنازل. ومجال إحلال الوسائل الزراعية الحديثة مكان المياه في بعض الأساليب الإنتاجية الزراعية صار أكثر شيوعاً وفائدة، بدءاً من تطبيق علم الفسائل، وعلم البذور لإنتاج المحسّن منها والقادر على النمو السريع بدون أمراض وبكميات معقولة من المياه، والأردن يراقب هذه الأساليب وينجح فيها ولديه مستقبل واعد في هذا المجال.

وإذا تذكرنا أن مقدار المياه المخصص للري والسقاية الزراعية قد يصل إلى أكثر من 60% من المياه، وحوالى ربع المياه يوجه للاستهلاك المنزلي، فإنّ الباقي في حدود 15% يذهب للصناعة، فإن بإمكان الأردن أن ينجح في بناء منظومة من المياه تكفي حاجاته الأساسية، ولكن السؤال هو: عند أي سعر للمياه أو نظام أسعار للمياه يمكنه من تحقيق هذا الهدف؟ ولعل الجواب يكمن في إدخال آليات السوق إلى المياه، وهذا ما يجري حالياً، فكثير من الأردنيين الذين يعيشون في بنايات أو مجمعات أبنية يعتمدون على نظام التزويد الجماعي للماء، ما يجعل الماء أقل كلفة. وكذلك، فإن المياه الذي يستخدمها الأردنيون للاستعمالات الشخصية خاصّة الشرب والطبخ هي مياه منتقاه ومباعة ضمن قوارير بلاستيكية، ما يسمح لسعرها بأن يغطي كلف إنتاجها وتوزيعها.

ورغم كل هذه الوسائل، إلا أن الشتاء والمطر النازل من الغيوم يبقى هو المصدر الأساسي الذي يفرح الناس، ويهيّج قرائحهم شعراً ورومانسية، ولهذا نجد الآلاف المؤلفة من أبيات الشعر العربي والقصص الرومانسية بدءاً من شعر الصعاليك قبل الإسلام، ومروراً بشعر المعلقات، فالشعر في العصور الأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية والشعر الأندلسي وخاصة الموشحات ومن أشهرها "جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس"، مروراً بأشعار شوقي ومعاصريه إلى أن تصل إلى محمود درويش ومعاصريه.

الماء في وجداننا العربي هو الحياة، وهذا ما عزّزه القرآن الكريم في الآية الكريمة رقم 30 من سورة الأنبياء، (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)، وقوله تعالى في نهاية الآية الخامسة من سورة الحج: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).

وبغض النظر عن كميات المياه التي تهبط على الأردن، فإنها تبقى شحيحة، ولعل السنة الأسوأ من حيث كميات هطول المطر هي 2017 حين وصل معدل الهطول إلى 40% من المعدل السنوي للأردن، الذي بلغ حوالى 55 ملم من المياه، وهو رقم ترك أثراً سالباً نفسياً على الأردنيين.
وزير المياه والري الأردني رائد أبو السعود/العربي الجديد
اقتصاد عربي

وزير المياه الأردني لـ"العربي الجديد": نعاني عجزاً مائياً متفاقماً

وهناك بالطبع وسائل وبرامج كثيرة أعدت عن استثمار المياه الجوفية داخل الأردن، التي يشجعها خبير في المياه مثل دكتور منذر حدادين، ويقول إن الأردن يتمتع بوفرة من المياه العميقة والمتميزة على امتداد الحدود السعودية، لكن هناك من يخالفه الرأي ويعتقد أن كلفة ناقل البحرَين هي أجدى بكثير من حفر آبار على عمق آلاف أمتار للوصول إلى المياه الجيولوجية، وما يزال هذا الأمر موضع جذب وشد بين الخبراء على الجانبين.

وهناك خبراء مثل الراحل "فرانك فيشر" أستاذ اقتصاد المياه من معهد ماسا تشوسيتس للتكنولوجيا (MIT) الذي قدم ورقه في معهد جيمس بيكر الثالث بجامعة رايس بمدينة هيوستن بولاية تكساس الأمريكية عام 1996، واقترح فيها أن تتبادل الدول الجارة المياه في أوقات مختلفة تتفاوت فيها الحاجات، وبدلاً من أن يقوم كل جار بزيادة إنتاج المياه ليصل إلى الذروة فإنه ينتج الحد المطلوب كمعدل، وإن زاد الطلب عنده يستعير المياه من جاره الذي يستهلك كميات أقل في ذلك الوقت، وهكذا يصبح تجميع موارد المياه من الطرفين والاستخدام من فروقات الطلب فرصة لإدارة المورد المائي بفعالية وأقل كلفة.

النظريات المتعلقة بالماء وأهميته واستخداماتها كبيرة، وصارت رزمة المياه والطاقة والبيئة رزمة اقتصادية متكاملة، ولا بد من النظر إليها بوصفها مجموعة متداخلة، والأردن الذي يعاني من 5.5 مليارات دينار خسائر في إنتاج الكهرباء نتج 20% منها عن استهلاك الكهرباء لصالح ضخ المياه وتوزيعها بذلك.

ومن هنا فإن أي رفع في مستوى ضخ المياه وتقليل الهدر فيها سيسهم بقدر مهم في كلف دعم الكهرباء، ويعزز من الشروط البيئية المطلوبة من استهلاك الطاقة والمياه للحفاظ على بلد طيب الأنفاس.