الدستور
للمرة الثانية خلال أشهر قليلة أعود للكتابة عن الجامعة الأردنية، بعد أن أظهر التصنيف العالمي للجامعات QS مرّة أخرى المسافات المهمة التي تقطعها الجامعة على الطريق الصحيح، إذ تقدمت 44 مرتبة على العام الماضي، وأصبح ترتيبها 324، وهو تقدم مدهش وعظيم، لكنّ الحفاظ عليه أو الاستمرار بالتقدم إلى الأمام يمثّل أيضاً تحدّيا أكبر مما تمّ إنجازه في هذه المرحلة الجديدة في الجامعة، التي يمكن أن نعتبرها مرحلة انتقالية نحو عصر جديد في تاريخ الجامعة، ونأمل أن يكون كذلك في تاريخ التعليم العالي الأردني!
ماذا يعني هذا التصنيف؟! هو على صعيد الاستثمار في التعليم الجامعي مهم وأساسي، فتصنيف الجامعات في العالم اليوم بات معياراً رئيسياً للمنح واستقطاب الطلاب من مختلف دول العالم، فالمسألة الأولى التي يتم النظر فيها ما هو مستوى الجامعة، ومدى حصول الكليات والتخصصات المختلفة فيها على الاعتمادات الدولية، وفي التصنيف الجديد للجامعة الأردنية فهي تتقدّم على عدد كبير من الجامعات الغربية التي يذهب أبناؤنا للدراسة فيها، وهي متقدمة بصورة مميزة على المستوى الإقليمي، ما يجعلها أيضاً «قبلة» للطلاب العرب من الخليج ومن دول أخرى حتى في المنطقة.
هذا الإنجاز لم يتحقق صدفة أو عبثاً، بل جاء نتيجة جهود جبّارة ومكثفة وعمل متفانٍ لفريق متخصص في الجامعة بمسألة الجودة والتصنيف وبإشراف من الرئيس د. نذير عبيدات بنفسه، بالإضافة إلى نقلة نوعية على مستوى البنية التحتية في الجامعة وعلى مستوى رقمنة المعرفة والتدريس والجودة والاعتمادات الدولية وسمعة الجامعة واستقطاب الأساتذة الزائرين والمؤتمرات والندوات والانشطة المختلفة.
قبل أعوام كنّا جميعاً في حالة قلق شديد على التعليم العالي في الأردن، وما أزال أذكر جملة خطيرة لأحد أبرز مؤسسي وروّاد التعليم العالي رؤساء الجامعات، د. عدنان البخيت، مؤرخنا الكبير، إذ قال « إن التعليم العالي يحتضر في الأردن»، كانت عبارة مؤلمة، لكنها صادقة، فقد شهدت الجامعات خلال تلك المرحلة موجة عنف شديد وتراجع كبير في مستوى التعليم والتدريس، وكان الانطباع العام بأنّنا في مرحلة انحدار وتراجع متسارع، لكن مع هذا التحول الراهن الذي تقوده الجامعة الأردنية فيمكن القول بأنّها تقدّم نموذجاً رائداً في المراجعة وتصحيح المسار والانطلاق مرّة أخرى ليعود التعليم «نفط الأردن» وتستعيد الأردن مكانتها الإقليمية والتاريخية التي تميّزت بها عندما كان البعض يعتبرها «هارفارد» المنطقة العربية.
بالطبع لا نريد أن نقع ضحية الشطط بالتفاؤل، فمثل هذا التحدي لا يزال كبيراً وأمامنا مسار طويل، لكن من المهم أن نتمسّك بالمسار الجديد، وأن نفكّر بالأبعاد والجوانب الأخرى المهمة، وأهمها تطوير المحتوى المعرفي وربطه بالمشكلات الواقعية وتعزيز دور الجامعة في التنمية المحلية وفي صناعة السياسات العامة، والربط بين الميدان البحثي، في مختلف المجالات، والمشكلات والتحديات والأولويات الوطنية المختلفة.
من القضايا المهمة، التي بدأت الجامعة أيضاً الاهتمام هي تجسير الفجوة الكبيرة بين مخرجات التعليم وسوق العمل، على ثلاثة مستويات؛ الأول يتمثّل باستدخال مادة «الإعداد الوظيفي «Employment Reediness ، ومستوى تطوير مهارات الاتصال واللغة الانجليزية والعربية ومستوى نسج العلاقة مع أصحاب المصلحة بالتخصصات المعنية، ذلك كلّه جيّد، لكن المطلوب أن يكون هنالك تعزيز وتوغل في هذا الاتجاه من خلال تطوير علاقة استراتيجية، بل عضوية، بين الكليات المختلفة وبين المجالات التطبيقية والعملية، وهو الأمر الذي من المفترض أن ينعكس على مناهج التعليم نفسها من جهة، ومساهمة تلك الجهات بالبنية التحتية والخبرة التطبيقية من جهةٍ ثانية، وتعديل التخصصات والمخرجات بما يتناسب مع التطورات الجديدة في مختلف الحقول من جهةٍ ثالثة.
من الضرروي، أيضاً، أن نتجاوز فكرة التركيز على الجوانب العلمية والطبية والهندسية، على أهميتها البالغة، وأن يكون هنالك مراجعة كبيرة لمسار العلوم الاجتماعية وهي المعنية اليوم بمعالجة المشكلات المجتمعية والثقافية والسياسية وتطوير مقاربات معرفية، تستند إلى دراسات ميدانية وبحثية معمّقة للتحولات والتطورات الاجتماعية وتقديم مقترحات وتوصيات لتطوير السياسات العامة أو دور كل من المؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني المعنية بالأمر..
مرّة أخرى نحتفي بإنجاز الجامعة الأردنية، ونقول بأنّه مهم ومبشّر، لكن الطريق لا يزال أمامنا طويلاً لتحقيق المهمات المطلوبة.