عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    05-Jan-2025

تأملات في ديوان «حصاد الياسمين» للشاعر صبحي الششتاوي

 الدستور-الناقد محمد رمضان الجبور

لقد آن لهذا الشاعر أن يحصد ما تناثر من درره في ديوانه الجديد والثالث «حصاد الياسمين»، فهو شاعر يُتقن اختيار الحروف والكلمات، يلملم ما تاه من القصائد، ينسج لها أثواباً وصوراً وزخارف، ينسج من صور المرأة موالاً وقصيدة، ويزينها بالورد وألوان الطبيعة الخلابة، يتألم مرة ً، ويضحك أخرى، وتمضي الحروف والكلمات، يخيط لها أثواباً من صورٍ وحكايات، يعزف على وتر امرأة من نور، يُلبسها القشيب من الثياب، يجعل منها وطناً وقصيدة، إنه الشاعر صبحي الششتاوي صاحب الحضور الدائم، يُطلُّ علينا بديوانه الثالث «حصاد الياسمين» الذي ضم بين دفتيه مائة واثنتين وستين قصيدة، نثرها متحرراً من سلاسل العروض وأصفاد القافية، وبعيداً عن التكلف والغموض صاغ صوره الشعرية، وجوّد نثره بالاستعارات والصور الجميلة، ونوّع في موضوعات قصائده، فذكر المرأة، والغياب، والذكريات، والجمال، والأيام، فهو يطالعُ ذكرياته في حصاد الياسمين فيقول:
أستقي من الأمس عبيرها/ من مبسم كان يفوحُ جناها/ عيناها أفق يتوهُ فيھما الخيالُ/ ويتوهُ فيھما الحسنُ والجمالُ/ تسافرُ في الروح والترحال/ من محمل يرقد رحاها/ للمكان تمنحني اللقاء/ من طريق الأمس/ تعود من ساعاتٍ/ توقف بها الزمنُ/ نجمعُ حصاد الياسمين/ أطالعُ فيها كل الذكريات. (الديوان ص26)
عناوين القصائد جاءت لتشكّل لوحات لها بريق خاص، فهي عناوين مائزة، متوهجة، ومسبوكة بعناية، ومعظم هذه العناوين تألف من كلمتين أو كلمة، فهي المفتاح الذي من خلاله نلجُ إلى تلك النصوص، فهي عناوين معبرة عمَّا جاء داخل القصيدة، مثل: سارقة الياسمين، امرأة من جنون، المساء الحزين، حصاد الياسمين،... فالعناوين ظهرت لوحات جميلة تُزين الدخول إلى متن القصائد.
الشاعر صبحي الششتاوي في مجموعته الشعرية هذه ومجموعاته السابقة نراه يميل إلى توظيف الحكاية التي امتزجت بروح الشعر بألفاظ وجمل بسيطة مما جعل هناك مساحة للسرد والوميض، فالكثير من نصوص الديوان جاءت على شكل ومضات سريعة، مدهشة ومتوهجة وكأن هذه النصوص تُكمل بعضها بعضاً.
ففي نص بعنوان «احتراق» يقول: في ليلها البارد/ أشعلتْ أقلامها/ لتدفئ أوراقها/ فاحترقْت من/ الشوق نارها. (الديوان ص 24)
قصيدة النثر عند صبحي الششتاوي متفردة في أسلوبها، لها طعم خاص، ألفاظها بسيطة مستوحاة من الطبيعة ومما حول الشاعر، فيرى فيها المتلقي الفرح والحزن معاً، تسيطر على الشاعر عواطف متنوعة تُشعل في نفسه حرائق الحنين فينطلق لسانه مُعبراً عما يختلجُ في نفسه، فيرسم لوحاته بأقل الألفاظ والعبارات مصوراً حالته النفسية من عشق وفراق ولقاء.
«عاشقة متمردة»
«نصفُ الروحِ مهاجرة.../ والأخرى تبحثُ عنها/ وبين النصفين/ وجدْتُ نفسي تائها/ من الأمس منسيّا
من رسائلَ عالقةٍ/ أُطالعُ فيها كلَّ يومٍ ذكرياتي/ رسائلُ من قبري/ تولدُ من رفاتي/ كم توسّلتُ لها
بأحلامي المتعبة/ تمضي الأيامُ/ وعقاربُ الوقتِ أنكرَتْني/ لا تكلّمني وأَعْيَتْني/ تلك العاشقةُ المتمرّدةُ
لم تَعُدْ تحرّكُها الكلمات/ ولم تَعُدْ تحرّكُها النسمات/ كيف أخبرُ عنها/ سلاطينَ العشقِ/ وأميرتي بصدري
تبكي متمرّدة.» (الديوان ص 43)
قد لا نبالغ إذا قلنا أن من أهم عناصر بناء النص الصورة الشعرية، فمن الصور يتم باء النص والقصيدة، فهي من أهم أدوات البناء، ومن مجموع الصور تُولد القصيدة، وقد اهتم صبحي الششتاوي في رسم الصور المعبرة والمتجددة، فلا يخلو نص من نصوصه من الصور التي تم حبكها بإتقان، فجاءت معبرة، تخدم النص وترقى به، فهي تساعد في إضفاء لمسة جمالية في النص، وتجذب انتباه المتلقي، فهي أداة الشاعر للتعبير عن رؤاه ومشاعره وانفعالاته، ففي نص بعنوان «زاهدة تمضي» يقول الشاعر:
يَبكي الوقتُ على مِعصَمي/ وينوحُ في صَمتي/ تعثرَ السّاقي بِسّاقي/ وَحطمَ انعكاسي/ سأتوقفُ قليلاً
لأكملُ مَسيرتي/ ولتستريح كلَّ أقلامي/ زاهدة تَمْضي/ تحتَ القمر/ غَمَرتُها حباً/ وَسقَتُها عِشقاً
وأغرقتُها حَنيناً/ فَذَبُلَتْ ارتواء/ هي التي رَسمتني/ عاشقاً وَترَكتني/ أمضي بين وَهمٍ وخيال.
وتاهت الروحُ ما بيني/ وبين النسيان.» الديوان ص 115
في النص السابق مجموعة من الصور الشعرية التي صاغها الشاعر بإحكام فزادت من جمال النص، فهو يأنسن الوقت ويشبهه بالإنسان الذي من صفاته أحياناً البكاء، واختار المعصم دالاً على مكان الوقت، فغالباً ما تكون الساعة في معصم اليد، وينوح... وغيرها من الصور، بل نكاد نقول أن القصيدة أحياناً بحد ذاتها صورة، فالصورة الشعرية من أهم الأدوات الفنية المؤثرة في العمل الأدبي، وقد التفت صبحي الششتاوي لهذا الأمر فجوّد نصوصه بالصور الشعرية المبتكرة والمؤثرة، ومن خلال الصور الشعرية نستطيع أن نميّز بين لغة الشعر ولغة النثر العادي، وتظلّ الصورة الشعرية الركيزة الأهم والأساسية في العمل الأدبي، وحتى لا نطيلُ كثيراً نُعرّج على مثال آخر من نصوص شاعرنا نص بعنوان «همس المطر»:
مازال عبقُ المكانِ/ يعصف بنا/ كيف أصيرُ بحرا...؟/ وقد جفتْ روافدُها.../ وسحبُها تجوبُ سمائي
في الصحراء بلا مطر/ من ذا ينقذُني/ من بحر الشوق...؟/ ويوصلُني شواطئَها...؟/ وحدَها هي التي
تعرفُ طعمَ قبلاتي/ لتقولَ لي وتهمسني/ بهمس المطر/ منذ انتهيت/ من أنا ؟( الديوان ص 142)
ففي النص السابق الكثير من الصور الشعرية، بدءاً من عنوان النص «همس المطر» الذي يمكن رده إلى ما يسمى بالنقد بالأنسنة، فالمطر يشبه الانسان، فهو يهمس، والهمس خاص بالإنسان دون غيره، ثم يكمل الشاعر بتوليد صور أخرى، فيشبه نفسه بالبحر، والحبيبة أو المخاطبة بالأنهار فقد جفت روافدها، وهكذا نرى أكثر من صورة في هذا النص الصغير مساحةً .
وبعد فنحن أمام مجموعة شعرية جديدة للشاعر صبحي الششتاوي، وضع بها عصارة جهده حتى تخرج بثوبها الأنيق القشيب، فهو صوت شعري له حضوره في المشهد الثقافي، وهو يأخذ المتلقي إلى أعماق شعورية، من خلال تجربته الطويلة مع الحرف والكلمة، وقد اختصرتُ كثيراً في هذه المقدمة تاركاً المجال للقارئ والناقد ليدلي بدلوه في هذه المجموعة .