عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    06-Jan-2020

ليته لم يقتل.. قاسم سليماني - ياسر عبد العزيز

 

الجزيرة - منذ مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في العراق بعملية أمريكية نوعية استهدفته فيها طائرة مسيرة أمريكية، وذلك بعد أحداث اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد من الميليشيات العراقية التابعة ولائيا لإيران، والتي أصبح معروفا للقاصي والداني أن قاسم سليماني هو القاد الحقيقي والمخطط والمدبر لمخططاتها ويشرف على تنفيذ عملياتها، وقيل فيما قيل إن قاسم سليماني دبر العملية التي كانت بداية لما هو أكبر، عملية انقلاب متكاملة يطيح فيها بالحكومة والمؤسسات ويضغط على السفارات التي تمركزت ميليشياته بالقرب منها ليعلن حكومة على مقاس إيران وينهي الجدل السائر بين جناحين داخل الطبقة السياسية في العراق إحداها موالي لطهران وأخر لواشنطن.
 
لكن كل هذا ليس بيت القصيد من هذا المقال، وإنما تبعات مقتل قائد فيلق القدس وردود أفعال متلقي نبأ مقتله، كارهو الرجل فرحوا ووزعوا الحلوى بل ومنهم من ذبح الذبائح وأطعم الناس في الطرقات، وهم في ذلك أصحاب حق، فملايين الأبرياء، لو حصرنا، ماتوا على يد سليماني في العراق وسوريا واليمن، وفي إيران نفسها من الاحواز والبلوش والعرب وغيرهم ممن عارض أو اختلف أو حتى خالف العقيدة، وكم من عقول اغتالها في الداخل والخارج لو قدر لهم الحياة لنفعوا الأمة وغيروا من حالها لو سمحت لهم الظروف.
 
وهناك من تلقى الخبر وآثر أن يكون على الحياد لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ذهب بمشاعره ولا إعلامه، وهؤلاء على قسمين الأول لم يكتووا بنار الرجل ولم يصبهم ما أصاب الطائفة الأولى، فلم يدركوا ما أدرك لاعنوه من القسم الأول ولم يعرفوا له تاريخ ولا جغرافيا يعمل فيها الرجل الذي وصلت يداه من غرب إيران إلى غرب إفريقيا في نيجريا وغيرها، ومنه من له مصالح مع إيران آنية أو مستقبلية ويريد أن يبقي على شعرة معاوية. 
 
أما مؤيدو الرجل من أنصاره وأتباعه وبنو جلدته، فناحوا ونصبوا المآتم وخرج الناس في الشوارع بمئات الآلاف ناعين الرجل وصابين جامَّ غضبهم على من قتله متوعدين بالرد، وهم من يؤمن بما اعتقد به الرجل عقيدة وسياسة، فسليماني، وبحق، صاحب مشروع وكان مخلصا له، وجهده معروف لدى العوام في بلده أو من صار في مشروع بلده من الأقليات في بلدان أخرى، فبفضل سليماني، باتت طهران تتحكم في قرار العراق ولبنان وسوريا واليمن فعليا لا حكما، وتوسعت نفوذها في الشرق الأوسط والأدنى وإفريقيا شمالا وجنوبا. لكن النعي الذي أصدرته حركة المقاومة الإسلامية حماس والذي تبعها فيه كل حركات المقاومة في غزة (الجهاد اصدرته قبل حماس)، كان له فعل القنبلة الذرية في ناجازاكي وهيروشيما، فلقد تشظا العرب على إثر هذا النعي بين رافض وبين مدافع، فمن أنكر، أنكر من وجع أصابه وجرح لا يلتئم من فعل من نعته المقاومة، ومن يدافع..  يدافع من خذلان العرب للمقاومة فلم تجد المقاومة ما وجدته من إيران في التدريب والتأهيل والتسليح والتقنيات، والتعاون الاستخباراتي والإنفاق المادي والعيني الاجتماعي قبل العسكري.
 
مقتل قاسم سليماني كشف عوارا في منظومة الفكر السياسي العربي، وهنا خص الساسة الذين سلكوا درب العوام وساروا على دربهم مدفوعين تحت دكتاتورية الشعوب إلى أن يسلكوا سلوك العوام، على الرغم من أن بعضهم، ليس الكل لم يمارس السياسة فقط بل درسها، مع ذلك ترك نفسه لتيار الهوى الشعبي دون ضابط أو حاكم لمحددات السياسة، ومنهم من كان أسيرا لفتاوى الفقهاء وحديثهم عن الجواز والحل والحرمة، ومنهم من رأى في الشعبوية سبيل آمنا للخروج من جلد الشعوب ولعناتها. الأزمة الآن هي تعريف العدو، فلو سألت العربي من هو العدو لاحتار، لم يعد للعرب محددات واحدة للعدو، ولم يعد العدو واحد للعرب، ولو وسعنا الدائرة وأدخلنا المسلمين لجاءت الإجابات متضاربة بل ومتنافرة، بل ستجد من سفه الآخر على تحديده الكيان الفلاني عدوا ولم يسمي الكيان العلاني، فالفلسطيني لا يرى في الإيراني عدو فيما لا يرى السوري الكيان الصهيوني خطرا داهما، وإذا سألت السعودي ستجد إجابته مشابهة للسوري ومغيرة لما أجاب الفلسطيني.. وهكذا.
 
لكن الحقيقة التي يجب أن يفهمها أو يعرفها الجميع وفي مقدمتهم الساسة الذين ينطقون بها ليل نهار أمام شاشات التلفاز دون أن يطبقونها أن السياسة قائمة على المصالح، وصديق اليوم يمكن أن عدو الغد، فليس في السياسة عدو دائم ولا صديق دائم، والمصالح حاكمة والأولويات ضابطة، وعلينا أن نعذر بعضنا بعضا، كما علينا أن نراعي في مصالحنا المحددات الجامعة للأمة، كما يجب أن يتصرف الساسة كرجال دولة لا قادة جماعات أو حركات، فلا ينظرون تحت أقدامهم ويوسعون دائرة النظر واضعين في الاعتبار مساحات استيعاب الشعوب وآمالهم وأحزانهم، وعلينا جميعا أن نعمل وفق مشروع حضاري يعيش فترة نقاهة انتفضت فيه الشعوب من أجل استكماله، فلا يعيد السياسيون المشروع لدوائر الإقليم بل القرى والضواحي، ولا نجبر أحد على النظر للقضية من منظار صاحبها، بل على الجميع أن ينظر إلى الأمة بنظرة شاملة فما يصيب الاندونيسي يحزن له المغربي، وعلينا في نفس الوقت أن نستوعب خصوصيات الحالة ونترك لها مساحات العمل، كما أنه علينا ألا نحصر ذلك المشروع الحضاري النهضوي في كيان أو حزب أو جماعة، فالمشروع ستحمله الشعوب إن هي وعته واستوعبته.
 
أخيرا، رب ضارة نافعة ربما كان مقتل قاسم سليماني وما تلاه من اختلاف يفتح الباب للأمة كي تراجع نفسها، ولعل محددات العداوة لدى الأمة والتوسع في هذا المفهوم بعد أن تداعت الأكلة على قصعتنا، باب يجب أن يفتح النقاش فيه، ولعل سلوك المرونة الذي يجب أن يتحلى به نخب هذه الأمة لاستيعاب الآخر ودوافعه، هو باب آخر علينا فتحه ومناقشته، ولعل ما يحدث الآن إنما هو عملية إنضاج لأمة حرمت، بفعل وكلاء الاحتلال، من ممارسة السياسة، ولعل القادم أفضل، ولعل قتل سليماني كان خير.