الغد
تبدو الضفة الغربية اليوم وكأنها تقف على حافة انفجار واسع، في ظل تزايد اعتداءات المستوطنين واتساع الحملات العسكرية الإسرائيلية إلى جانب ضعف واضح تعيشه السلطة الفلسطينية على مستوى القيادة والتمثيل الشعبي. هذا التداخل بين عوامل الضغط الخارجي والعجز الداخلي يجعل احتمال اندلاع انتفاضة ثالثة أقرب من أي وقت مضى، خاصة مع تحول الأحداث اليومية والأرقام الميدانية إلى مؤشرات مباشرة على تراجع السيطرة السياسية والأمنية.
تعاني السلطة الفلسطينية منذ سنوات أزمة شرعية عميقة، إذ تجاوز الرئيس محمود عباس التسعين من عمره، ما يخلق حالة فراغ قيادي تضعف قدرة السلطة على لعب دور الوسيط بين الشارع والاحتلال. هذه الأزمة لا تتعلق بالأشخاص فقط، بل ببنية السلطة نفسها التي باتت عاجزة عن حماية المدن والقرى من الاقتحامات أو الحد من هجمات المستوطنين، في ظل تكرار مشاهد سقوط ضحايا وتدمير ممتلكات دون قدرة فعلية على الرد سوى بإصدار بيانات سياسية لا تصاحبها إجراءات حماية، تعويض، أو مساءلة.
تجسدت هذه الصورة بشكل واضح خلال أحداث حوارة في فبراير/شباط 2023، حين اجتاح مئات المستوطنين أحياء في البلدة والقرى المحيطة تحت حماية جنود إسرائيليين. خلال ذلك جرى إحراق محجر، ومنجرة، ومحطة لغسيل السيارات، ومتجر للأجهزة الكهربائية، إضافة إلى مستودعات ومواقف سيارات وورش تصليح. في أحد المواقع وحده أحرِقت حوالي 140 مركبة، وفي اعتداءات لاحقة جرى حرق أو تدمير نحو 110 مركبة أخرى، إضافة إلى 26 سيارة في مرآب منفصل، إلى جانب سيارات زبائن ومركبات معطلة كانت معدة لقطع الغيار. وصلت قيمة الأضرار المقدرة في بعض المصالح التجارية في حوارة إلى ما يعادل تقريبًا مليونا وسبعة وسبعين ألف دينار أردني، بينما بلغت خسائر مالكي مواقف السيارات مئات الآلاف، منها موقع واحد قُدرت خسارته بنحو 129 ألف دينار، إضافة إلى خسائر تجار تُقدّر بعشرات الآلاف نتيجة توقف الحركة التجارية وإغلاق الشوارع.
لم تقف الخسائر عند الممتلكات؛ فقد فرض الجيش إغلاقًا على نحو 350 منشأة تجارية لمدة خمسة أيام متتالية، ما يعني فقدان دخلهم الكامل طوال فترة الإغلاق. كما أن المصالح التجارية ظلت تتحمل نفقات تشغيل رغم توقف النشاط الاقتصادي، ما ضاعف الخسائر المالية على أصحابها.
إلى جانب ذلك، يتعرض القطاع الزراعي الفلسطيني لأحد أخطر أشكال الاستهداف، حيث جرى اقتلاع أو إحراق مئات الآلاف من أشجار الزيتون منذ بدء الاحتلال، ويُقدَّر العدد التراكمي بما يفوق 800 ألف شجرة عبر العقود، جزء كبير منها نتيجة اعتداءات مباشرة من المستوطنين، إلى جانب تجريف واسع للأراضي خلال العمليات العسكرية. في السياق الفلسطيني المتداول، وتم حرق واقتلاع ما لا يقل عن 300 ألف شجرة زيتون خلال السنوات الماضية في الضفة وغزة، فيما تشير دراسات إلى أن تدمير الأشجار خلال فترات محددة قد بلغ نحو مليون ونصف مليون شجرة خلال سبع سنوات في بداية الألفية، وأغلبها زيتون، في هجمات منفصلة. هذا الاستهداف لا يمثل خسارة اقتصادية فحسب، بل يمس جوهر الهوية الزراعية والذاكرة الجمعية للفلسطينيين، ويحوّل مواسم القطاف من مناسبة اجتماعية إلى موسم تهديد مستمر.
في موازاة هذا المشهد، تتحدث جهات إسرائيلية عن محاولات متزايدة لتهريب أسلحة متطورة إلى الضفة تشمل قذائف مضادة للدروع وطائرات مسيّرة وعبوات محكمة التصنيع، وعلى الرغم من نجاح القوات الإسرائيلية في منع بعض هذه الشحنات، فإن جزءًا منها يصل بالفعل إلى مجموعات مسلحة محلية، ما يرفع من مستوى التسلح داخل مناطق الاحتكاك. ويترافق ذلك مع تسليح ما يقارب نصف مليون مستوطن في الضفة الغربية عبر السماح بحمل السلاح بشكل موسّع وتزويد الكثير منهم بمركبات دفع رباعي تتيح لهم الوصول إلى التلال والمزارع والطرق الوعرة المحيطة بالقرى الفلسطينية، وهو ما اعتبره حقوقيون ومراقبون انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي نظرًا لكون المستوطنات أصلًا غير قانونية ومقامة على أراضٍ محتلة. هذه السياسات تمثل توجهًا واضحًا لدى الحكومة الإسرائيلية اليمينية نحو تعزيز وجود المستوطنين كقوة شبه أمنية موازية للجيش، الأمر الذي يجعل أي حادث ميداني، ولو كان محدودًا، مرشحًا للتحول إلى مواجهة واسعة يصعب احتواؤها في ظل تراجع قدرة السلطة على التدخل وضبط المشهد.
السلطة الفلسطينية تجد نفسها عالقة بين التزامات سياسية تمنعها من المواجهة العسكرية المباشرة مع الاحتلال، وانعدام أفق سياسي يجعل المفاوضات بلا جدوى واضحة في نظر الجمهور. وبين مسار تفاوضي متوقف ومسار مقاوم لا تتبناه رسميًا، تتآكل ثقة الناس بقدرة السلطة على تحقيق حماية أو تغيير، ما يجعلها تبدو جزءًا من الجمود بدل أن تكون رافعة للتغيير.
ومع استمرار الاعتداءات، وتضخم خسائر الناس في الممتلكات والأراضي ومصادر الدخل، وتوسع أعداد الأشجار المحروقة والمقتلعة وتراجع دور المؤسسة الرسمية، تزداد القناعة بأن الضفة الغربية مقبلة على مرحلة مواجهة واسعة قد تتحول إلى انتفاضة ثالثة. هذه الانتفاضة، إن اندلعت، قد لا تكون منظمة أو مرتبطة بقيادة مركزية، بل نتاج تراكم غضب شعبي طويل، ينفجر في لحظة غير متوقعة، وقد لا يملك أي طرف التحكم بمسارها أو نتائجها.