الغد
آلان رسبريدغر* - (الإندبندنت) 22/7/2025
على مدى قرابة عامين، فرضت السلطات البريطانية حظراً قضائياً صارماً منع نشر قصة تسريب خطير عرّض حياة آلاف الأفغان والمتعاونين مع لندن للخطر، بحجة حماية الأمن القومي. لكن الكشف المتأخر عن القضية كشف أيضاً عن خلل كبير في آليات الرقابة على الدوائر الأمنية المغلقة، واستهانة غير مسبوقة بحق الجمهور في معرفة الحقيقة.
سبق أن فُرضت عليّ أنا شخصياً أوامر قضائية صارمة، لكنني نجوت لأروي القصة الكاملة على طريقة فرانز كافكا. وقد جعلتني تلك التجربة أتعاطف مع "الإندبندنت" وغيرها من وسائل الإعلام التي اضطرت على مدى عامين إلى التكتم على قصة لم ترد الدولة البريطانية أن تُروى.
كانت تجربتي الخاصة مع الكتمان القسري تتعلق بشركة سيئة السمعة تدعى "ترافيغورا"، ضبطت في العام 2006 وهي تتخلص من نفايات كيماوية سامة قبالة سواحل غرب أفريقيا. وقد دفعت الشركة أكثر من 30 مليون جنيه إسترليني (40.2 مليون دولار أميركي) كتعويضات وكلف قانونية لما يقارب 30 ألف شخص من سكان مدينة أبيدجان في ساحل العاج، قالوا إنهم تضرروا من تلك النفايات.
سعت "ترافيغورا"، بكل إصرار، إلى منع نشر نتائج تقرير داخلي كان من شأنه أن يسبب لها حرجاً بالغاً، واستصدرت أمراً قضائياً يمنع صحيفة "الغارديان" البريطانية من نشره. ثم لضمان ذلك، استصدرت أمراً آخر يمنعنا حتى من الكشف عن وجود الأمر القضائي الأول.
أهلاً بكم في عالم الأوامر القضائية الصارمة التي كانت لفترة من الزمن توزع كما لو كانت قصاصات قانونية ملونة، والتي غالباً ما كان يلجأ إليها لاعبو كرة قدم منحرفون لإخفاء مغامراتهم خارج الملاعب. وقد شكلت قضية "ترافيغورا" تطبيقاً جديداً للقانون بهدف إسكات الصحافة الاستقصائية، في ما يبدو أنه يناقض المبدأ القضائي الوحيد الذي يعرفه معظم الناس: أن العدالة يجب أن تُرى وهي تتحقق.
ولم تتوقف "ترافيغورا" عند هذا الحد، بل قطعت شوطًا أبعد: عندما طرح نائب من حزب العمال سؤالاً في البرلمان البريطاني حول استخدامها لأمر قضائي صارم، حذر محاموها، وتحديداً الشركة سيئة السمعة "كارتر-راك"، الصحف من أن مجرد الإشارة إلى هذا التدخل البرلماني قد يعد ازدراء للمحكمة.
كان ذلك سخيفاً بصورة واضحة؛ فقد غابت عن محامي شركة "ترافيغورا" العدوانيين حقيقة أن هناك من يخاطر بحريته وحياته دفاعاً عن حقه في نقل ما يقوله ويفعله ممثلوه المنتخبون، ولم يكن مفاجئاً أن الأمر القضائي الصارم سرعان ما انهار مثل حلوى "سوفليه" غير ناضجة.
واليوم، بعد مرور 16 عاماً، نكتشف أن مجموعة صغيرة من المحامين والقضاة والسياسيين وموظفي الخدمة المدنية أمضت 683 يوماً في منع الصحافة من نشر قصة غير عادية تدور حول مسؤول مهمِل في وزارة الدفاع البريطانية، تسبب في خرق كارثي للبيانات عرّض حياة آلاف الأفغان للخطر.
بدأت الحكاية في أيلول (سبتمبر) 2023، حين أصدر القاضي روبن نولز أمراً قضائياً بحظر نشر شامل (يسري على جميع الأطراف داخل المملكة المتحدة وخارجها)، يمنع أي طرف من الكشف عن التسريب الذي تضمن أسماء أفغان تعاونوا مع القوات البريطانية في كابول، وباتوا الآن عرضة لانتقام محتمل من "طالبان". وعلى الرغم من أن القاضي تحدث عن أهمية حرية التعبير بعبارات فاترة، فإنه رأى أن فرض الحظر الكامل ضروري لإتاحة الوقت لوزارة الدفاع لاحتواء الضرر.
ولكن، مع تزايد عدد الصحفيين الذين أصبحوا على علم بالقصة، انتقلت القضية إلى القاضي مارتن تشامبرلين الذي عقد جلسات استماع عدة معظمها خلف أبواب مغلقة، لتحديد مدة بقاء الأمر القضائي ساري المفعول. ثم في مرحلة ما قبل نحو عام، رأى أن الوقت قد حان لإنهائه، لكن محكمة الاستئناف رفضت قراره وألغته.
لم يكشف الستار عن القضية إلا هذا الأسبوع حين سُمح لنا أخيراً بأن نعرف أن ما يصل إلى 18.500 أفغاني قد نقلوا سراً إلى بريطانيا بكلفة تقدر بما بين 400 مليون و7 مليارات جنيه إسترليني -أي أننا لا نعرف الرقم الحقيقي- كما أن عملاء استخبارات بريطانيين وجنوداً من القوات الخاصة كانوا من بين عشرات الآلاف الذين عرضهم هذا التسريب الكارثي للخطر.
كان ما حسم الموقف بالنسبة للقاضي تشامبرلين تقرير لتقييم الأخطار طلبته الحكومة الحالية من موظف مدني متقاعد يدعى بول ريمر. وقد تبنى ريمر رأياً مختلفاً تماماً بشأن استمرار التهديد، وقال تشامبرلين إن هذا التقييم قوّض تماماً المبررات القانونية للإبقاء على أمر حظر النشر قائماً. وهكذا، في منتصف نهار الثلاثاء، كشف أخيراً عن حجم ما كان يجري، والذي كان مذهلاً بكل المقاييس.
قد يرى البعض أن فرض حظر مؤقت على النشر في أيلول (سبتمبر) 2023 كان مبرراً لإتاحة الوقت للسلطات لتحذير المعرضين للخطر وإنقاذ أكبر عدد ممكن منهم. لكن السؤال هو: هل كان من الصواب الإبقاء على الحظر كل هذه المدة؟
من الواضح أن القاضي تشامبرلين كان يعتقد أن رفع الحظر قبل عام كان إجراء سليماً، فهل كان محقاً أم أن وزارة الدفاع كانت هي المحقة في طلب مزيد من الوقت؟
أول ما ينبغي قوله هو أن الدولة تلجأ دائماً في مثل هذه الحالات (سواء من خلال الحكومة نفسها أو جهازها البيروقراطي) إلى المطالبة بمزيد من السرية. وسوف تدّعي بأنها تتصرف باسم "المصلحة الوطنية"، لكن التاريخ يظهر أن الحكومة القائمة في أي وقت لا يمكن الوثوق دائماً بحكمها في تحديد تلك المصلحة. في العام 1938، حاولت الحكومة البريطانية آنذاك استخدام "قانون الأسرار الرسمية" Official Secrets Act لإجبار النائب دانكن سانديز على الكشف عن مصدر معلوماته بشأن حالة الدفاعات المضادة للطائرات في العاصمة لندن. واللافت أن سانديز أصبح لاحقاً وزيراً للدفاع.
يرى المؤرخون اليوم أن الذين عارضوا سياسة التهدئة خلال ثلاثينيات القرن الماضي (السياسة التي انتهجتها الحكومة البريطانية آنذاك لتجنب المواجهة مع ألمانيا النازية) كانوا على صواب. في ذلك الوقت، هاجمت الحكومة المتساهلة المبلغين الذين يسربون معلومات سرية الذين زودوا ونستون تشرشل (الذي كان حينها نائباً في البرلمان ومعارضاً للتهدئة) بمعلومات سرية حول مدى استعداد بريطانيا العسكري لخوض الحرب. ووصفت الحكومة هؤلاء المبلغين بأنهم "عناصر تخريبية". وأعرب أحد وزراء الحرب (وهو الآن في طي النسيان) عن غضبه، وقال "إن الضرر الذي لحق بالقوات يفوق بكثير أي فائدة قد تتحقق". لكن ما تبين لاحقاً هو أنه كان مخطئاً؛ فكان تشرشل والمصادر التي كانت تزوده بالمعلومات على حق.
وفي العام 1967، حاولت الحكومة منع صحيفة "صنداي تايمز"، برئاسة رئيس تحريرها آنذاك، هارولد إيفانز، من نشر رواية دقيقة لقضية كيم فيلبي؛ العميل السابق في المخابرات البريطانية (أم آي 6) الذي كان يعمل كعميل مزدوج. وعندما فشل وزير الخارجية في ذلك الحين، جورج براون، في إيقاف النشر، اتهم إيفانز علناً بالخيانة موجهاً الكلام له: "أنتم تمنحون الروس أفضلية، بحق السماء توقفوا!".
وليست هذه النزعة حكراً على بريطانيا. في العام 2004، أقنع الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش صحيفة "نيويورك تايمز" بعدم نشر سلسلة مقالات تكشف عن أن "وكالة الأمن القومي الأميركية" كانت تتنصت على اتصالات الأميركيين من دون إذن قضائي. وقال بوش لرئيس التحرير: "ستكون أيديكم ملوثة بالدماء"، فاستجاب الأخير وأوقف النشر.
وهكذا كان القاضي تشامبرلين محقاً في أن يبدي قدراً من الشك حيال ما كان يقدم له من ممثلي الدولة طوال هذه القضية التي استمرت عامين. وقد أشار -محقاً- إلى أن حجم الأموال المحتملة (7 مليارات جنيه إسترليني) وعدد المهاجرين الذين جرى إجلاؤهم في ظروف طارئة، كلاهما قضيتان تستحقان نقاشاً سياسياً مشروعاً.
ولعل الأشد إثارة للقلق هو أن أعضاء "لجنة الاستخبارات والأمن" في البرلمان لم يبلغوا بالأمر. في حزيران (يونيو) 2024، اقترح قاض في "محكمة الاستئناف" السماح للجنة بالاطلاع على الملف، لكن المحامي الرئيسي لوزارة الدفاع رفض الفكرة بازدراء.
وقال رئيس اللجنة اللورد بيميش إن قرار عدم إطلاع لجنته على القضية كان مروعاً. وهو محق؛ فهذه اللجنة هيئة قانونية مخولة بمراقبة عمل وكالات الاستخبارات البريطانية، بما فيها مقر الاتصالات الحكومية "جي سي إتش كيو"، و"أم آي 6"، و"أم آي 5". أما إبلاغها بأن وزارة الدفاع لا تثق بها في ما يخص بعض المعلومات، فأمر يثير الشكوك حول جدوى آلية الرقابة على أجهزة الدولة السرية بأكملها. والسؤال المطروح هو: ما هي المعلومات الأخرى التي يعتقد عملاء الاستخبارات أنه لا يمكن الوثوق بطرحها، حتى أمام الجهات الرقابية؟
من المفارقات أن المؤسسات الإعلامية السبع، بما فيها "الإندبندنت"، التي كانت على علم -سراً- بالموضوع عند صدور الأمر القضائي، تصرفت جميعها بصورة لا تشوبها شائبة ولم تدل بكلمة واحدة. إنه عالم مقلوب رأساً على عقب يؤتمن فيه الصحفيون على معلومات جرى حجبها عن "لجنة الاستخبارات والأمن" البرلمانية.
أخيراً، كان اللورد بيميش محقاً في غضبه، ولا شك في أن لجنته ستسعى إلى الحصول على إجابات، لكنها ليست الجهة الوحيدة التي تطالب بذلك. يجب أن تكون هناك محاسبة كاملة ما أمكن. وكما يقال: "الديمقراطية تموت في الظلام".
*آلان رسبريدغر Alan Rusbridger: صحفي بريطاني بارز، كان رئيس تحرير صحيفة "الغارديان" بين العامين 1995 و2015؛ حيث أشرف على تغطيات عالمية كبرى، مثل فضائح "ويكيليكس" و"ملفات إدوارد سنودن" حول المراقبة الأميركية والبريطانية، وهو ما رسخ سمعة الصحيفة كمنبر استقصائي عالمي. بعد مغادرته الغارديان، أصبح رئيساً لكلية "الليدي مارغريت هول" في جامعة أكسفورد. كما تولى رئاسة مجلس إدارة "مؤسسة الإعلام الاستقصائي". يُعرف بكتاباته المنتظمة في مختلف الصحف، وبمواقفه المدافعة عن حرية الصحافة وأخلاقياتها في العصر الرقمي.