عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    04-May-2018

مملكة سوريا الفيصلية بعد مئة عام ..

 حمد يونس العبادي

الراي - أصعب ما يمكن الحديث عنه في سياق استحضار مئوية مملكة فيصل التي شكلت حلماً عربياً لم يكتمل أنك تبدأ من حيث إنتهت.
ففي مذكرات صاحب المناسبة الملك فيصل – ملك سوريا الهاشمية – نقرأ قوله في مذكراته : " في 8 آذار 1920 أعلن شعبي بواسطة مندوبيه الذين اجتمعوا في دمشق استقلال سوريا، وانتخابي ملكاً عليها."
ويتابع: " وقد قال هؤلاء المندوبون في أنفسهم أنه اذا كان الحلفاء مخلصين في أعمالهم ووعودهم،
فإنهم يعترفون بهذا القرار الناشئ عن رغبة الشعب العامة والذي يضع وعود الحلفاء موضع التنفيذ
ويبرهنون بذلك على كذب الأتراك في إدعاءاتهم".
ويضيف الملك: " أما إذا كان الأمر على النقيض من هذا. ولم يؤيد الحلفاء عمل الشعب السوري وقرار
مندوبيه، يظهر صدق الأتراك في كل اداعاءاتهم وأقوالهم وتحذيراتهم".
ويصف المؤتمر السوري الذي تمخض عنه مملكة فيصل بقوله: " لقد قيل عن المؤتمر السوري، الذي مثل الشعب السوري أنه غير قانوني، مع أن هذا المؤتمر انتخب بأفضل الوسائل المشروعة، وكان يمثل الشعب السوري كله".
لربما هذه الأقوال الواردة في أوراق الملك فيصل تستعيد لحظات قاسية وتأتي وطأتها على مفاهيم ما زلنا لليوم نعاني منها، بل وبمفارقة أن سوريا ذاتها ما زالت تعاني منها، ولسنا هنا في مقام السياسة بل في حضرة التاريخ، ونجترح هذا السؤال ونترك الإجابة لكم.. إن كانت قد تلاقت الشرعية والمشروعية في مشروع فيصل ومملكته، وأنتخبت وتوطدت أركانها بأفضل المثل الديمقراطية ، فعلى ماذا جاءت الأحداث من قبل الديمقراطيات على هذه الشاكلة، أم أن شيطنة الفعل العربي الشرعي ونزع مشروعيته منه أدبيات استعمارية مترسخة تراكمت عبر مئات من السنين.
والمفارقة الأخرى التي بحاجة إلى تأمل والتي نستعيدها أيضاً من بين أوراق الملك فيصل، والحديث اليوم عن الأقليات والأكثريات في المنطقة أخذ بالتزايد، هي ما نجح مشروع فيصل بإنجازه بصياغة عرش ودولة ذات اجماع وهو ما فقدته بعدها سوريا إلى اليوم.
إذ يقول الملك في أوراقه : « لقد جرت الانتخابات على الدرجة الثانية وحسب القوانين التركية القديمة، فأنتخب 85 مندوباً من مختلف الجهات، أضفنا إليهم 35 مندوباً من زعماء القبائل ورؤساء الأديان. «
«وقد جاء الأعضاء من المنطقتين الشرقية والغربية، وكان هؤلاء يمثلون مختلف المذاهب والديانات ، وأرسل لبنان ثلاثة مندوبين، كان انتخبهم لإطلاع اللجنة الأمريكية على رغائب اللبنانيين وأمانيهم. «
فيصل الذي « لم يلعب بعواطف شعبه الوطنية ولم يخدعه» (وفق ما قال في مذكراته) أُنزل عن العرش قسراً، وبحكاية ما زالت لليوم بحاجة إلى نقرأها في سياق الحاضر، فما أشبه اليوم بالأمس، وما أصعب صروف الدهر العربية التي تتكرر في فلسفتها نفس السياسة، ويتم التسلل إلى المنطقة بذات السلالم !
فقد تلقى فيصل رداً من المملكة المتحدة أن انجلترا ستعترف باستقلال المملكة السورية وإعترافها بها ملكاً عليها بعد مؤتمر « سان ريمو».
أما موقف فرنسا فقد بادرت لتحط ركابها العسكري بقيادة الجنوال غورو في لبنان وباشر يخطب ضد فيصل وحكومته.
المفارقة في حكاية المملكة السورية والتؤامر ضدها أنه شكل تحالفات كان يفترض بها أن تكون تناقضات، فعلاوة على عهود الثورة العربية الكبرى، فإن فرنسا وتركيا عقدتا هدنة.
إذ يقول فيصل : « كان موقف فرنسا يزداد غموضاً يوماً بعد يوم، وقد استطاعت بعد عقد الهدنة مع
مصطفى كمال أن ترسل قسماً كبيراً من جيوشها إلى هذه البلاد وأخذت تحشد مختلف الأنحاء بالجند والمصفحات والطيارات ..»
ويتضح من هذه الأحداث التواطؤ الخارجي الدولي – الاقليمي، ولكن لا نغفل عن الأهم وهو السبب الداخلي « إذ شكل غورو حكومة مسيحية في لبنان وأخذ يخطب ضد حكومة فيصل مثيراً اللبنانيين للإحتجاج على مقررات المؤتمر السوري».
وعلينا هنا أن نتوقف عند طريقة تفكيك مشروع الثورة العربية الكبرى بالفرقة، فالمسيحيون كانوا في
طلائع من اشتركوا في الثورة العربية ورافقوا فيصل والأمثلة عليهم كثيرة، ومثال على المسيحيين
اللبنانيين « قسطنطين يني» الذي حاز على وزارة في حكومة الحجاز.
*دخول دمشق:
السؤال في رواية فيصل يبقى هو : لماذا هذا الاستدراك ومحاصرة الحلم العربي ، والإجابة هنا تستدعي الرجوع إلى الخلف وقراءة الأحداث التي رافقت فيصل ؟
والإجابة هنا أنه في اليوم الثالث من تشرين الأول سجل فيصل على أبواب دمشق في (القدم) موقفاً لا يمحو من الذاكرة العربية بسهولة .
فلأول مرة بعد سنين طويلة تشهد الدنيا العربية قائداً عربياً على رأس جيش عربيٍ يقبل على عاصمة عربية محرراً لها .
ولنقرأ معاً ما يقوله أحد الشاهدين وهو رستم حيدر عن ذلك اليوم: «فكان الدوي والهتاف والتصفيق فوق ما يتصوره كاتب. الكل يترامون على يده فرحين مبتهجين حتى دخل بهو الحكومة الكبير وأحاط به جمع من العلماء والأعيان واصفاً مبايعة مفتي دمشق الشيخ عبدالقادر الخطيب لفيصل ملكاً على سوريا .
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى كلف الملك الحسين بن علي إبنه الملك فيصل بحضور فعاليات مؤتمر
الصلح ، وفي هذه الرحلة إلى آوروبا بدأت تتضح معالم السياسة الفرنسية الطامحة لإحتلال سوريا أكثر فأكثر.
في 22 تشرين الثاني سافر الملك فيصل إلى آوروبا ، وأبلغته فرنسا أنه ليس من المرغوب أن تواصل سفرك إلى باريس « فرساي»، إذ كان الفرنسيون يرفضون أن يمثل فيصل العرب وتحديداً عرب سوريا.
فترك فرنسا وسافر إلى انجلترا بعد قضاء نحو 10 أيام لم يستفد منها شيئاً، وفي إنجلترا التي التقى فيها يوم 28 كانون أول 1918 وزير الخارجية اللورد كرزون جرى حوار بينه وبين فيصل.
ومما جاء فيه استفسار كرزون من فيصل عن إمكانية أن يترك العرب جزءاً من سوريا لفرنسا ، فقال فيصل: « إن فرنسا تطمع بسوريا كلها لا بجزء منها».
وبعد مفاوضات بريطانية فرنسية أبلغ فيصل أنه سيكون من ضمن الحاضرين لمؤتمر فرساي (الصلح) وتبلغ فيصل أنه سيكون للعرب مندوبان، هما الأمير فيصل ورستم حيدر ليكون المندوب الثاني.
*في مؤتمر الصلح:
في 6 شباط 1919 ، ومما جاء في خطبته في المؤتمر : « إني أعتقد أن هذه المحكمة العليا ستنصف الأمة العربية أثناء دفاعها عن حقوقها الطبيعية». وكان الفرنسيون عابسين من خطاب فيصل الذي عرض فيه تمدن الأمة العربية ومكانتها التي تحتم عليها أن تأخذ حقها بالوحدة وتشكيل دولة .
وأكد فيصل خلال المؤتمر رفضه لتجزئة البلاد العربية، وحاول الفرنسيون أن يحرجوه بأسئلة كليمنصو
المتتابعة وبينها سؤاله لفيصل : ماذا قدم العرب في هذه الحرب؟
وأوضح الأمير لهم مجريات الثورة العربية الكبرى رغم قلة المعونة والزاد وكيف طردوا الأتراك من الحجاز ، ثم حركات الجيش العربي في معان، واختتم اجاباته بقوله : « إن أمتي لها مدينة عظيمة ، ولما كانت متمدنة كانت الأمم التي تمثلونها في حالة البربرية والهمجية، فلا تبخسوا هذه الأمة التي خدمت التمدن حقها».
ومن المفارقات أن الفرنسيين أعدوا في هذا المؤتمر الذي حاولوا ثني العرب عن تمثيلهم فيه، أنهم أعدوا وفداً مضاداً برئاسة شكري غانم وجعلوه خليطاً من طوائف عدة وهم : جميل مردم (مسلم) وجميل مكرزل (ماروني) وأنيس شحادة (أرثوذكسي) والدكتور جورج سمنة (كاثوليكي) والدكتور توفيق فارحي (يهودي).
وشكري غانم لبناني غادر إلى الجزائر وهو في السابعة من عمره وعاش هناك حتى بلغ الشباب وتزوج من فرنسية، وعاش في باريس.
وهاجم غانم فيصل كونه حجازي، وأن الحجاز لا يمكن أن تحكم سوريا، وبات يناهض فيصل . وأرسل الوفد العربي المرافق لفيصل برقية احتجاج للمؤتمر على مشاركة غانم أكدوا فيها أنه ورفاقه لا يمثل السوريين وهم يحملون جنسيات أجنبية وأنه يرأس جمعيات لبنانية وهمية .
وقدم العرب تحفظهم على مقررات المؤتمر وخاصة كلمة الانتداب التي جاءت استعاضة عن كلمات الاستعمار والحماية .
ولا بد هنا من الإشارة إلى مشاركة وفد لبناني وآخر ماروني في المؤتمر مطالبين باستقلال لبنان، كما أن فيصل أدرك هذه المساعي وجديتها، فكتب مذكرة لرستم حيدر وهو يهم عائداً الى سوريا لمتابعة القضية العربية في باريس مضمناً فيها رؤيته :
1 (الإعتراف باسقاط حكم المعاهدات القديمة.
2 (الاعتراف باستقلال سوريا التام.
3 (سحب القوات العسكرية الاحتلالية في الوقت الذي يعينه السوريون.
4 (احترام استقلال لبنان.
5 (الاستقلال بضمانة الدول.
6 (الخيار للحكومة السورية في إبقاء قسمٍ من جند الاحتلال أو عدمه.
وأرسل فيصل برقية إلى رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج ، تعبر عن اليأس في مجريات المؤتمر كتب فيها:
« إن هدفي هو منع المشاكل التي ستنفجر حينما تنسحب القوات البريطانية حسب خطوط سايكس – بيكو التي يعترف بها السوريون».
*المؤتمر السوري العام :
وفي 6 اذار 1920 عقد المؤتمر السوري جلسة افتتحها الأمير فيصل بخطاب تفصيلي حول القضية العربية وحق العرب بالاستقلال وخاصة سوريا بحدودها الطبيعية ووفق مبدأ اللامركزية.
وتمخض عن هذا المؤتمروضع المؤتمر المناداة بفيصل ملكاً على سوريا، وشهد يوم 8 أذار احتفالاتٍ في دمشق ورفع علم المملكة.
وفي 13 تموز 1919 وضع أول دستور عربي في العصر الحديث وهو أول دستور عربي ، ومثل طموحات العرب الاستقلالية وأكد على مشاركة المرأة في الانتخابات. وأخذت البلاد تستعد لإجراء الانتخابات النيابية.
وهدف فيصل من وراء هذا التسارع إلى تأكيد الأمر الواقع حيال ما يخطط له من الجانب الفرنسي وبدرجة أقل الانجليزي إذ بدأت المنافسة على المنطقة تتسارع بين حلفاء الأمس.
وفي 25 نيسان فقد قرر وضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي والعراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب الانجليزي .
وبدأ فيصل يفكر في بحث حلول لسيطرة فرنسا على غرب سوريا (لبنان)، فبدأ التفكير بالسفر إلى آوروبا وحالت فرنسا دون تلك الزيارة.
إذ يقول الملك فيصل: « فقد فكرت أنه قد يكون من الممكن اذا سافرت إلى آوروبا أن أصل إلى حل للقضية كلها. وكتبت إلى الجنرال غورو في 9 تموز أطلب إليه أن يهيئ لي أسباب سفري، فأجابني بأن لديه بضعة شروط يريد أن يعرضها علي قبل مغادرتي سوريا وإلا فإن الحكومة الفرنسية لن تدخل معي في أي مفاوضة». ولم تتم الزيارة إلى آوروبا، اذ أن غورو لم يرد أن ينهي فيصل القضية بالمفاوضات بل بالحرب.
وفي 14 تموز تلقى فيصل الانذار المشهور من غورو مدعياً أن فيصل وضع العراقيل في محاربة العدو
المشترك مصطفى كمال باشا (تركيا) ورفضه السماح بنقل الذخائر إلى الشمال.
ويؤكد فيصل في مذكراته عدم الاعتراض على نقل هذه الذخائر، ويقول : « فالجنرال غورر لم يكن يرغب في نقل الجند والذخائر لمحاربة العدو المشترك مصطفى كمال بل لمهاجمة منطقتي !» .
بما يشير إلى أن النية بيتت لدى الفرنسيين لإنهاء الحكم العربي في سوريا.
*ميسلون المعركة الفاصلة :
كانت الشروط التي وجهها الجنوال غورو إلى الملك فيصل، لكي يسمح له بالسفر إلى آوروبا ليعرض
المسألة السورية على عواصم القرار، هي أربعة:
1 (وضع سكة حديد رياق – حلب تحت تصرف الجيش الفرنسي .
2 (قبول الإنتداب الفرنسي.
3 (إلغاء التجنيد الإجباري وتسريح المجندين.
4 (قبول الأوراق النقدية التي أصدرها البنك السوري .
5 (معاقبة المجرمين الذين استرسلوا بمعادة فرنسا.
وأثار هذا الانذار هياجاً وقلقاً عظيمين في جميع المحافل الحكومية والشعبية، وأرسل الملك فيصل نوري السعيد إلى غورو في بيروت ليطلب منه العدول عن الإنذار ولكنه رفض وبدأ المسير العسكري تجاه دمشق.
وتمخضت المداولات التي أجراها فيصل وحكومته عن قناعة أن رفض الإنذار سيؤدي إلى الانكسار السريع وبذلك ستخسر سوريا كل شيء ، ورأوا أنه من الأفضل قبول الإنذار والدخول بمفاوضات تنقذ البلاد.
واتصل فيصل بغورو في 20 تموز 1920 يخبره بقبول الإنذار فخرجت مظاهرات صاخبة وعمت أنحاء البلاد.، حيث أصدر أمراً بتسريح الجيش . ولكن ، كل هذا لم يقنع غورو !
*المعركة:
منذ فجر 24 تموز 1920 تهيأ جميع القادة والمحاربين في الجيش العربي للمعركة، التي بدأت بتراشق الطرفين للمدفعية وبدأت المدفعية الثقيلة الفرنسية تقصف المواقع العربية في وادي القرن وعلى مرتفعات وادي الزرزور وواصلت دبابات العدو تقدمها وكان من أقسى الأخبار على الجنود سماعهم بنبأ استشهاد يوسف العظمة وزير الدفاع.
*مغادرة دمشق:
غادر فيصل دمشق التي دخلها فرحاً ومشاعر الحزن تتملكه وبالقطار اتخذ الملك محلاً لمنامه ، ووصل درعا حيث لاحقه الطيران الفرنسي مهددا الحوارنة بعدم السلام على الملك فيصل ، وهناك تلقى فيصل برقية من الفرنسيين يطلبون إليه مغادرة درعا إلى الحجاز، فاتخذ الملك قراره لمواصلة الدرب إلى حيفا.
ويقول صبحي العمري في مذكراته عن ميسلون: « لم يكن لدى الملك حين غادر سوريا شيء يذكر من المال وأبرق إلى والده الشريف الحسين يطلب إليه أن يرسل له مالاً ليسافر إلى آوروبا «.
خاتمة:
تبقى هذه التجربة احد صروح التاريخ العربي الحديث التي هي بحاجة إلى قراءة وتأمل لكي نستطيع
الاستفادة منها، إذ فيها تبرز سمات الإنسان العربي ومجتمعه بشكله الأرقى فضلاً عن كشفها لمكامن الضعف فيه والتي يعبر عنها: سهولة التفرقة بين أبنائه على أساس العرق والدين والطائفة، وسهولة نفاذ أذناب الاستعمار من خلال مقدرته على بناء خطاب مضاد لأي خطاب نهضوي، بالاضافة إلى عدم وجود النفس الطويل في بناء الدول والافتقار إلى سياسيين يمكن أن يتعودوا على مراس المفاوضات واللعب بين القوى وتناقضاتها، ولكن أصدق ما يمكن أن يقال في هذه المملكة أنها فردوس عربي فقد سريعاً، كما كثير من الدول التي أضاعها العرب سواء في اسبانيا قديماً أم في مجريات حاضرنا، رحم االله فيصل والدعوة لسوريا أن تستعيد بعضا من عافيتها التي سلبت بذات الطريقة مرة أخرى اليوم !