تحولات المشهد السوري: بين صعود الجولاني وإعادة تشكيل الجغرافيا الأمنية*د. عامر السبايلة
الراي
مع سقوط النظام السوري، انتقلت إسرائيل إلى العمل على إعادة رسم الجغرافيا الأمنية والتوغل في الداخل السوري بأعمق نقطة ممكنة، في مسعى لفرض واقع مستقبلي يضع الأرض السورية تحت السيطرة والمراقبة الإسرائيلية. شملت هذه الخطوات ضرب البنية التحتية العسكرية السورية وتدمير ترسانة الجيش السوري، بهدف تأسيس واقع مستقبلي لسوريا منزوعة السلاح، وتحويلها إلى جغرافيا غير قابلة للتوظيف أو الاستخدام في أي معادلة يمكن أن تستهدف إسرائيل مستقبلاً.
وفي الوقت الذي انشغل فيه العالم بمتابعة تحركات زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني أو (أحمد الشرع)، لفت الأخير الأنظار بتحول نوعي في حضوره وخطابه، مما يبدو أنه جزء من استراتيجية تسويقه كخيار سياسي مناسب للمرحلة المقبلة. ورغم تأكيداته المتكررة على احترام التنوع في المجتمع السوري، والحفاظ على وحدة البلاد، وضمان الانتقال الديمقراطي، تبقى المخاوف قائمة من قدرة الهيئة على تطبيق هذه التصريحات عملياً.
الجولاني، الذي يتصدر المشهد السوري اليوم كزعيم يمثل فكراً عقائدياً قد يواجه تحديات حقيقية في مسألة قبول الآخر وإدارة الاختلاف او القبول بمبدأ تبادل السلطة. فخطواته الأولى، من تشكيل حكومة ذات لون واحد إلى محاولة السيطرة على السلطة، تشير إلى غياب وصفة حقيقية للتعامل مع تعقيدات المجتمع السوري وموروثه السياسي. فسهولة انهيار النظام قد تعني صعوبة التعامل مع هذا الموروث بشقيه الأمني او البيروقراطي. وقد يؤدي هذا النهج إلى ردود فعل متوقعة من مكونات مختلفة في الداخل السوري، كالدروز والأكراد أو حتى في إدلب نفسها، الذ?ن يرون في الاستفراد بالقرار السياسي تهديداً لمصالحهم ومستقبلهم.
صحيح أن عملية تسهيل وصول الجولاني وهيئة تحرير الشام الى السلطة والتركيز على الصورة القمعية للنظام السابق يُبسط المشهد السوري بشكل كبير، لكن لا يمكن تجاهل ضرورة التعامل مع تعقيدات الواقع. الدعم الدولي الذي تُظهره الولايات المتحدة، والإقليمي الذي تقدمه تركيا، لا يمكن أن يضمن الانتقال السياسي بشكل كامل، لان التحدي الحقيقي يكمن في كيفية تعامل الهيئة مع مسألة بسط النفوذ على كامل الأراضي السورية، وهو أمر لم يتحقق إلى الآن. بالإضافة إلى ذلك، فإن القدرة على صهر كافة أطياف المجتمع السوري ضمن مشروع وطني تعد مهمة شبه?مستحيلة بالنسبة لتنظيم عقائدي يصعب عليه قبول التنوع السياسي ومبدأ تبادل السلطة.
في السنوات الأخيرة، قامت إدارة بايدن الديمقراطية بخطوة لافتة في أفغانستان، عندما انسحبت وسلمت البلاد لحركة طالبان، التي جرى تسويقها لاحقاً كحركة مختلفة، معتدلة وقابلة للتغيير والتكيف مع ضرورات العمل السياسي. اليوم، تتكرر هذه الظاهرة مع هيئة تحرير الشام. الوعد برفع الهيئة عن لائحة الإرهاب، والتفرقة بينها وبين الحركات الإرهابية المتطرفة، وتسويق شخص الشرع «الجولاني» بطريقة تُظهره على انه نموذج متطور فكرياً وسياسياً وقادر على تطمين الجميع بأن ايديولوجية الحركة الحقيقة لم تعد عائقاً أمام انجاز التحولات المطلوبة?للوصول الى السلطة. لكن، مع رفع الهيئة من قوائم الإرهاب، ينبغي التفكير بعمق في التبعات المتوقعة لهذه الظاهرة. فمعظم الحركات المتطرفة والارهابية اليوم قد تتبنى نهج التصعيد والتمرد كعنوان رئيسي في المرحلة القادمة خصوصاً في إطار التنافس ما بين هذه الحركات نفسها أولاً، وثانياً في سعيها للحصول على القبول والاعتراف بها كقوة موجودة على الأرض وقادرة على الإدارة والحكم، وهذا قد يشمل جغرافية واسعة لا تقتصر علي الجغرافية السورية.
أما الجزء الثاني فيتعلق أيضاً بعملية تجديد رغبة الأحزاب الإسلامية، التي انكفأت بعد الربيع العربي، في استعادة نشاطها ورغبتها للوصول إلى الحكم في بلدانها كأحد العناوين الرئيسية لتداعيات وصول حركة مثل هيئة تحرير الشام إلى السلطة. ومن رمزية بعض الخطوات التي ظهرت منذ سقوط النظام في سوريا، خطاب الجولاني في المسجد الأموي، الذي اعتبر فيه هذا الحدث نصراً للأمة الإسلامية وليس لمشروع المعارضة السورية، أو قيام رئيس الوزراء المعيّن محمد البشير بإلقاء أول خطاب له من منبر صلاة الجمعة في المسجد الأموي. هذه خطوات رمزية، لك?ها تعبر عن توجه أيديولوجي لفريق يتم تسويقه على أنه نتاج لثورة يُفترض أن جوهرها سياسي وليس دينياً.
الانتقال السياسي في سوريا هو عملية صعبة ومعقدة، وذلك لعدة أسباب تاريخية، ومجتمعية، واقتصادية، وحتى مؤسساتية. خطر الانزلاق في مواجهات داخلية يبقى كبيراً، فكثير من الأطراف في الداخل السوري لم تعبّر إلى الآن عن رأيها أو قبولها بما يجري، وتسليم مناطق نفوذها قد لا يكون بالعملية السهلة. كذلك ما زال موقف تنظيم داعش مبهماً، وتحركاته منذ لحظة سقوط النظام غير واضحة.
المنطقة قد تكون على موعد مع تداعيات كبيرة لما جرى وسيجري في سوريا، سواء على الصعيد السياسي أو حتى الأمني، خصوصاً أن المرحلة القادمة قد تشهد أيضاً انتقال إسرائيل لتطبيق خطوات عملية على الأرض قبيل وصول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض، من ضم أراضٍ في الضفة الغربية إلى البدء بتوجيه ضربات للجبهات غير المحاذية لها جغرافياً والتي تعتبرها إسرائيل جبهات النفوذ الايراني الممتدة من العراق إلى اليمن وحتى داخل إيران.