عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    13-Apr-2019

التکافل المجتمعي - د. ھاشم غرایبة

 

الغد- وأخیرا تراجع منظر اللیبرالیة ”فوكویاما“ عن أفكاره التي نشرھا قبل عشرین عاما، من أن اللیبرالیة الجدیدة ھي أرقى ما ابتكرتھ البشریة، وكافیة لتحقیق كل متطلباتھا وستطمس كل فكرة سواھا.
كان تراجعھ لِما رآه من تزاید للمشكلات المجتمعیة، وتعاظم للنزعات الیمینیة المتطرفة، وتراجع في مستوى احترام تعددیة البشر مقابل صعود للعصبیات العرقیة والقومیة، ھذا في المنظور الإجتماعي أما في الإقتصادي فحدث ولاحرج.
طبعا أطمعھ انھزام الفكر الشیوعي، فاعتقد أن ذلك بسبب صلاح الفكر الرأسمالي، لكن السبب الحقیقي عائد الى عیب بنیوي وموضوعي وتطبیقي في الشیوعیة ذاتھا، لیس ھنا مجال بیانھ،وبالطبع فالفكر الإسلامي غیر مطروح عندھم للنقاش أصلا، كون الغربیین عموماً لا یعترفون بالإسلام كفكر، من باب الرفض التعصبي ولیس نتاجاً لبحث وتمحیص، فھم قد یناقشوا الفكر البوذي أو الھندوسي، ویخضعوه للبحث الموضوعي، لكن عندما یتعلق الأمر بالإسلام فیسارعون لإغلاق الباب، خوفا من الخضوع لقوة الحجة.
سأتناول ھنا جانبا واحدا من مشكلات المجتمعات جمیعھا وھي: كیف یمكن ضمان حیاة كریمة للفرد في مختلف مراحل حیاتھ؟.
ظلت الرأسمالیة المتوحشة مطبقة في كل المجتمعات، والتي كانت تتبع الفلسفة (الإسبارطیة) الشھیرة ”البقاء للأقوى“، فتترك الأسماك الصغیرة تحت رحمة الأكبر منھا، ثم أدخلوا علیھا بعض مساحیق التجمیل تحت مسمى اللیبرالیة، التي أجازت تشكیل نقابات لتحسین ظروف الطبقة العاملة، ثم طوروھا الى اللیبرالیة الجدیدة حیث أوجدت تشریعات خدمیة مثل التأمین الصحي والضمان الإجتماعي عند العجز والبطالة.
السؤال ھو: ما الذي یقدمھ النظام الإسلامي (إن سمح بانتھاجھ) أكثر من ذلك؟.
ما سیحققھ الإسلام منبثق من اختلافھ المنھجي مع الرأسمالیة في نظرتھ للبشر، ففي حین تعتبر الرأسمالیة الإنسان أداة انتاج (كالآلة) من ناحیة، وأداة استھلاك (كباقي الكائنات الحیة)، وفي كلا الحالتین ھنالك ربح متحقق لرأس المال، أما الإسلام فیعتبره كائنا مكرما، وكل ما ھو في الكون أدوات مسخرة لخدمة احتیاجاتھ، وأن رأس المال ھو إحدى تلك الأدوات ولیس سیدھا، لذلك فالقیمة العلیا في الإسلام ھي الكرامة واحترام الإنسان وحفظ حقوقھ، في حین تسعى الرأسمالیة الى تأمین احتیاجاتھ والسھر على راحتھ لتحقیق ربح أكثر، تماما مثلما یعتني المزارع ببقراتھ جیدا لكي تدر حلیبا أكثر.
أما تطبیق ذلك فعلیا فھو كما یلي:
1 – العمل: تتحق مصالح الرأسمالیین بدوران عجلة الإنتاج، والربح ھو فارق جھد العامل، لذلك ینصب اھتمام صاحب العمل على تعظیم ھذا الفارق، الإسلام أیضا یھتم بالعمل ویعتبره عبادة: “ فالعمل ھنا خاضع لرقابة ثلاث
 
جھات : الله المطلع على النوایا، والرسول الذي یمثل سلطة الدولة، والمؤمنون أي المجتمع، لذلك فالعامل یتمتع بحمایة ثلاثیة وعملھ خاضع لرقابة مضاعفة، ولیس لسلطة صاحب العمل فقط وحمایة القانون فقط، لذلك فلیس من حاجة لنقابات تحمیھ، كما أن صاحب العمل محمي أیضا من ابتزاز وضغوط النقابات بتشریعات إلھیة ثابتة لا تتحیز لطرف ولا تخضع لضغوط الإضرابات وتعطیل العمل.
من ھنا فالعامل أكثر شعورا بالأمان ولا یخشى الطرد التعسفي، بسبب خوف صاحب العمل من الله، وصاحب العمل مطمئن الى استقرار عملھ وعدم تعطیل مصالحھ بالإضراب.
2 – التقاعد: خلق الإنسان لیعمل طول حیاتھ، لكنھ یعجز عن ذلك أحیانا لحالة مرضیة أو ضعف لتقدمھ في السن، في النظام الرأسمالي تكون الإحالة على التقاعد بسبب نقص انتاجیة العامل بما ینقص من فارق الجھد، خاصة وأن الخبرة المتراكمة توجب زیادة أجر العامل، وبالتالي یتم الإستغناء عنھ بذریعة راحتھ، ولكي یمكنھ إعالة نفسھ یقتطع من أجره الشھري نسبة معینة، مقابل إعطائھ راتبا طوال فترة تقاعده.
لذا فالراتب التقاعدي لیس تكرما من صاحب العمل بل ھو مما تجمع من الإقتطاعات، وھي استثمار آخر لرأس المال حیث یستغل المبلغ المتجمع طوال ثلاثین عاما وینتج مردودا لھ أكثر مما سیدفعھ، لذلك أصبحت ھنالك مؤسسات ربحیة متخصصة بذلك للضمان الإجتماعي، تتولى حالات التقاعد والعجز والتعطل.
في النظام الإسلامي الضمان تتولاه الدولة وللجمیع، ولأنھ لیس ربحیا فمردوده على المتقاعد أكثر.
3 –التأمین الصحي: في النظام الرأسمالي لیس ھنالك معالجات مجانیة، فالخدمة على قدر الدفع، لذلك فالرعایة الصحیة الجیدة ھي للمقتدرین مالیا، أما الفقراء فمحرومون منھا.
وجد رأس المال أیضا بابا للإستثمار في الصحة فنشأ ما یسمى التأمین الصحي، وھو مثل التقاعد، في استیفاء نسبة من الأجر الشھري تتناسب مع مستوى الخدمة مقابل الحصول على المعالجة عند الحاجة إلیھا.
في النظام الإسلامي تتكفل الدولة بالعلاج للجمیع مقتدرین وغیر قادرین وبالجودة ذاتھا.
4 – العنایة بكبار السن وذوي الإحتیاجات الخاصة: في النظام الرأسمالي لا یعتبر ذوو ھؤلاء ملزمین بالعنایة بھم، وقصارى ما یقدمونھ لھم ھو الشفقة، لكن العنایة منوطة بمؤسسات خاصة تتقاضى أجورا منھم، وفي حالة عدم التزام الأبناء لا یلزمھم القانون بذلك، لذلك قد تمتھن كرامة الكثیرین في آخر حیاتھم وینالھم الذل.
في الإسلام لا وجود لدور الإیواء، والقیم الاجتماعیة المعززة بالوازع الدیني تحتم على أبناء العاجز أو الطاعن بالسن العنایة بھ لیعیش مكرما حتى آخر یوم في حیاتھ، وینال المرء احترام المجتمع بقدر إخلاصھ بأداء ھذا الواجب تجاه أصولھ.
8 – حفظ كرامة الإنسان من المھن المھینة كالتسول والبغاء والسرقة والتھریب: تكثر ھذه الحالات في المجتمعات الرأسمالیة مع تزاید الفقر والتفكك المجتمعي، لذلك وضع الإسلام حلولا استباقیة، فأوجد الزكاة والصدقات والنذور والكفارات، كأدوات اقتصادیة لتقلیل الفوارق الطبقیة وانتشال من ھم في فقر مدقع، فتقل الحاجة للتسول تدریجیا.
كما وضع حدا للبغاء بتحریم الزنا، وربط الأسر ببعضھا من أجل تجفیف بؤر الفساد الأخلاقي المؤدي الى البغاء.
أما السرقة فجعل لھا عقوبة قاسیة تطبق بعد تحقیق كفایة الناس، ورادعة لكل من تسول لھ الأطماع الإستیلاء على ملك الغیر بلا استحقاق.
أما التھریب فقد قطع الإسلام دابره، إذ أنھ لا وجود للمكوس والجمارك في النظام الإسلامي، فالتجارة مفتوحة وھي خدمة للمستھلك ونفع للتاجر، ولا حق للدولة باستیفاء رسوم ترفع أسعار الحوائج.
ترى ماذا كان سیقول ”فوكویاما“ لو اطلع على كل ذلك.. وعرف أن الإسلام لیس مجرد أساطیر مسروقة من التوراة كما یعتقد، ألن یتراجع مرة أخرى!؟.