الدستور
كان يكفي أن تنطفئ الأنوار لتصبح الذات حرة. لا مرايا، لا شهود، لا لزوم للشرح. يكفي أن تغلق الباب خلفك، حتى تبدأ الحياة الحقيقية: الصامتة، الغريبة، المعقّدة، والمحبوبة رغم كل تناقضاتها. لكن يبدو أن الأبواب لم تعد تُغلق كما كانت.
الخصوصية، ذلك المفهوم الذي طالما ظنناه بسيطا، يتحول أمام أعيننا إلى رفاهية نادرة، بل إلى تهمة. من يخفي شيئا صار مثيرا للريبة، وكأن «المرئي» هو وحده ما يستحق الاحترام. تسللت هذه الفكرة إلى أعمق نقاط وجودنا: إلى شاشاتنا، إلى هواتفنا، إلى طريقتنا في الحب، وحتى في البكاء.
نحن الآن نعيش تحت سقف شفاف، يتكسر تحت كل لحظة ضعف لا نشاركها، وكل حقيقة لا نُعلنها. فهل حقا يجب أن يكون كل شيء معلنا؟ من الذي أقنعنا أن الشفافية الكاملة هي الفضيلة العظمى؟ ولماذا نخاف من الغموض ونربطه دائما بالإثم؟
في قلب كل إنسان غرفة لا يدخلها أحد. ليس لأنها مظلمة، بل لأنها مقدسة. هناك يعيش الحنين، وتنام الخيبات، وتتكاثر الرغبات التي لا تحتاج إلى شهود. من حق الإنسان أن يحلم وحيدا، أن يختار طبيبه بصمت، أن يحب سرا، أن يخجل دون جمهور. ومن حقه أيضا أن يحتفظ بألمه كأنه سرّ عائلي، لا مادة لأحاديث تويتر ولا قضية للنقاش العام.
ليست الخصوصية مهربا من القانون، بل هي شكل من أشكال الكرامة. هي الحق في أن نُترك وشأننا. أن نعيش شيئا لا يراه أحد، ولا يقتحمه أحد، ولا يُؤرشف على خوادم شركات الإعلانات.
في زمن تُختصر فيه العلاقة بالحياة بمقدار ما نعرض منها على مواقع التواصل، تبدو الحاجة إلى الظلّ أشبه بثورة. فهل نملك شجاعة العودة إلى العتمة؟ إلى حيث تكون الكلمات قليلة، لكنها صادقة، وحيث لا يرى أحد ماذا نبحث في «غوغل» وجات جي بي تي، أو ماذا نهمس لأنفسنا في منتصف الليل؟ والسؤال هنا ليس كيف نحمي خصوصيتنا، بل: هل لا نزال نؤمن بأننا نستحقها؟