عندما يصبح الإصلاح "إيموجيًّا"| م. عامر البشير
عمون-
الإصلاح… كالسير على الزجاج
في المدن التي تتكاثر فيها الأبراج وتضيق فيها الأرواح تحت أكوام الملفات، يغدو الإصلاحُ فعلاً يشبه السيرَ حافيًا فوق الزجاج؛ خطوةٌ واحدةٌ خاطئة قد تُدمِي، أمّا التوقّف فمعناه أن تبقى حبيس الألم إلى الأبد.
حوار بلا صدام
ومثل كثيرين من أبناء هذه المدينة، حملتُ وجعها في صدري، وبحثتُ عن سبيلٍ لأتحدّث باسمها من دون صدامٍ ولا صخب، اخترتُ طريق الحوار الهادئ، وراسلتُ أحد المسؤولين الكبار، واضعًا أمامه ما يعانيه الناس من مظالم وإشكالاتٍ يوميّةٍ متراكمة، مؤمنًا بأنّ الكلمة الصادقة، إذا خرجت من نيةٍ خالصة، تبلغ القلب قبل أن تبلغ الأذان.
حلمٌ أن تتحوّل المؤسّسة إلى بيتٍ للعدل
أرسلتُ رسائلي مثقلةً بتعب المدينة وأنين أهلها، أحمل في طيّاتها حلمًا بأن تتحوّل المؤسّسة يومًا ما إلى بيتٍ للعدل لا جدارٍ للصمت، كنتُ أؤمن أن الصدق إذا وُجِّه إلى الضمير، وجد طريقه، وأن العدالة لا تحتاج إلى واسطةٍ كي تُسمع.
الإيموجي البارد
لكنّ الردّ كان دائمًا هو ذاته:
رمزٌ صغيرٌ وبارد على شاشة الهاتف — “”.
ظننتُه أول الأمر علامةَ إقرارٍ أو استحسان، ففرحتُ بسذاجة الحالمين، وقلتُ في نفسي: ربما وصلت الرسالة، وربما هناك من يُصغي.
لكنّ الأيام كشفت لي أن الصمت ليس دائمًا أدبًا، وأن بعض الإشارات أتقنت فنّ اللامبالاة المبتسمة.
المعنى المراوغ للرمز
تأمّلتُ ذلك الرمز طويلًا.
أهو “أحسنت”؟ أم “اصمت”؟
أم سخريةٌ لينةٌ مغطّاةٌ بثوب التهذيب؟
ثم خطر لي خاطرٌ أكثر مرارة: لعلّ المقصود لم يكن “” بل “”، فالأولى تخدعك باللطف، والثانية تفضحك بالصدق — لكنّ المعنى واحد: لا تتعب نفسك، فلن يتغيّر شيء.
حين تتحوّل اللغة إلى رموز
حينها أدركت أن العلاقة بين المواطن والمؤسّسة، حين تتحوّل من حوارٍ إلى رموز، ومن صوتٍ إلى إشاراتٍ فارغة، تفقد معناها وحرارتها.
يصبح الاحترام واجهةً شكلية، ويغدو التواصل مجرّد إجراءٍ باردٍ بلا روح، ذلك الإيموجي الصغير لم يكن بريئًا كما يبدو، بل كان مرآةً صافيةً لفراغٍ مؤلمٍ يفصل بين السلطة والناس، بين من يتألّمون، ومن يرفضون حتى أن يروا الألم.
كان إعلانًا غير منطوقٍ عن الغياب:
غيابِ الإصغاء، وغيابِ الفعل، وغيابِ المسؤولية الأخلاقية.
ذكاءٌ عصري أم خيانةٌ للمسؤولية؟
يظنّ بعض المسؤولين أن الردّ بإيموجي نوعٌ من الذكاء العصري، أو اختصارٌ للوقت، لكنّ الحقيقة أنه خيانةٌ للمسؤولية، واستسلامٌ لعجزٍ في الفهم والإدراك.
فالمدينة لا تحتاج رموزًا رقمية تزيّن صمتها،
بل ضميرًا حيًّا يسمع، ويشعر، ويستجيب.
فالإصلاح لا يولد من "إبهامٍ مرفوع"، بل من قلبٍ صادقٍ يمدّ يده للناس، لا يبتعد عنهم.
بين “” الزائف و”” المستتر
وهكذا، بين “” الزائف و”” المستتر، يتجلّى وجهٌ واحد: غرورٌ متنكّرٌ في هيئة تهذيب، وجهلٌ مغطّى برداء الصمت، ومع ذلك، لم أستطع أن أتراجع.
ظننتُ أنني أصرخ في فراغٍ واسع، لكنّي أدركت أن الصدى كان أوسع من الوادي، وأنّ الوجع لم يكن وجعي وحدي.
جرح المدينة الجماعي
كل رسالةٍ وصلتني من الناس عندما تناولت موضوع اعلام القرار المجحف ، وسأواصل بالكتابة فيه، كانت مرآةً لجُرحٍ آخر، وكل حكايةٍ رواها أحدهم كانت تنزف بالحزن نفسه —
ظلمٌ مكرر بأسماءٍ مختلفة، ومعاملاتٌ مختومةٌ بختمٍ رسميٍّ يخفي وراءه قسوةً جديدة.
إنّ المظلومين، ليسوا أفرادًا متفرّقين،بل مجتمعٌ أنهكه الانتظار، وأرهقته البيروقراطية،
وذبلت أحلامه عند أبوابٍ مغلقةٍ لا تُفتح إلا “لمن يعرف الطريق”
رأيتُ وجوهًا غلبها التعب، ورجالًا فقدوا أرزاقهم لأن توقيعًا تأخّر أو ختمًا لم يوضع، ومستثمرين ومهندسين وتجارًا ومواطنين عاديين عالقين في نظامٍ، يُفترض أنه وُجد لخدمتهم فإذا به يستعبدهم بالمراجعات والتأجيلات والعقوبات.
الصمت خيانة
في لحظةٍ ما، فكّرت أن أصمت؛
ظنًّا أن السكوت أكرم من الصراخ في وجه الجدار، وأنّ الكلام ضد البرود الإداري لن يجلب إلا مزيدًا من الألم، لكنّني ما إن رأيتُ أن الجرح جماعيّ، وأنّ المدينة كلّها تنزف، حتى أيقنتُ أن الصمت خيانة، وأنّ القلم في مثل هذه اللحظات ليس ترفًا بل واجبٌ أخلاقي.
الكتابة… فعل تذكير لا ترف
لن أتوقّف عن الكتابة، لأنّ الصمت أصبح غطاءً للظالمين، ولأنّ الظلم حين يختبئ خلف الأختام ويتجمّل بالنظام، يتحوّل إلى مؤسّسةٍ تُحكم باسم القانون وتطحن باسم النظام.
أكتب لا لأنّ الكتابة تُشفي، بل لأنها تُذكّر.
لأنّ وراء كل مظلمةٍ إنسانًا يستحق أن تُروى قصّته.
لأنّ العدالة حين تغيب عن المكاتب، يجب أن تولد من جديدٍ في الكلمات.
الكلمة التي تشعل النور، فالظلم، مهما طال، يورث الظلام، لكنّ الكلمة الصادقة — مهما كانت صغيرة — قادرةٌ على إشعال نورٍ يخترق العتمة.
وربما، بإصرارنا على الكلام، نُعيد إلى المدينة بعضًا من روحها، وإلى القانون شيئًا من معناه،
وإلى الناس إيمانهم بأنّ الحقيقة، مهما طال غيابها، لا تموت.
عمّان… بيتنا المشترك
فالمُدن لا تُقاس بالإسمنت والحديد،
بل بالضمير الذي يُبقيها حيّة.
وعمّان، رغم تعبها، ما زالت تستحق أن نكتب عنها، وأن ندافع عنها، فهي بيتنا المشترك — بيتٌ لا يُرمَّم إلا بالصادقين،
ولا يُنقذ إلا بمن يؤمنون أن الكلمة الحرة،
إذا خرجت من قلبٍ نقيّ، أقوى من أي ختمٍ بيروقراطي،
لعلّ الإصلاح، في جوهره العميق، ليس مشروعًا سياسيًّا يُقاس بالبرامج والخطط، ولا إجراءً إداريًّا يُقاس بالمؤشرات والجداول، بل هو حالةُ وعيٍ تسبق الفعل وتُهذِّب النوايا، قد لا يُغيّر المقال قانونًا، ولا يفتح بابًا أُغلِق طويلًا، لكنه يفتح نافذةً في الوعي العام، ويُعيد إلى اللغة حرارتها، وإلى الضمير صوته الذي خفت بين الرموز الباردة والإيموجيات الصامتة.
فالإصلاح لا يحتاج إلى صخبٍ ولا إلى لافتاتٍ ملوّنة، بل إلى صوتٍ صادقٍ واحدٍ يكتب، لا ليُسمَع فقط، بل ليوقظ.
الكلمة، إن خرجت من قلبٍ مؤمنٍ بالمعنى، تسبق الفعل، وتظلّ أصدق منه، لأنها تُحْيي ما مات فينا من إحساسٍ بالعدل والانتماء.
الإصلاح رحلةُ إنسانٍ يحاول أن يُعيد الدفء إلى العلاقة بين المواطن والمؤسسة، وأن يُذكّر المدينة بأن العدالة ليست معاملةً مؤرشفة، بل روحٌ تسكن كل قرار.
وحين يصبح الإصلاح "إيموجيًّا"، تصبح الكتابة آخرَ ما تبقّى من الإيمان بأن الكلمة، إن صدقت، قادرةٌ أن تُعيد للمدينة نبضها، وللمؤسّسة إنسانيتها، وللضمير صوته الأصيل.
وما بين “إيموجيٍّ” باردٍ وضميرٍ حيّ، ستظلّ عمّان تختبر أبناءها، لتعرف من أحبّها حقًّا، ومن اكتفى بالإشارة.
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا، ولكن لا حياةَ لمن تُنادي، ولو نارًا نفختَ بها أضاءت، ولكنّك تنفخ في رمادٍ لا يُدفئ أحدًا.
فالإصلاح لا يُكتب على الورق فقط،
بل يُكتب على جدار الوعي، وفي ضمير المدينة التي تنتظر من يكتب… ليُوقظ، لا ليُصفّق.