عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Oct-2019

لا فرق بين منشار أخرس أو لعلاع* رمزي الغزوي
الدستور -
كانوا يقولون قديماً، إنّ بحة الحزن الشفيفة، التي تتلمسها في الناي، ليست إلا اشتياق القصب إلى أصله الذي قُطع منه. وإنّ عواء الريح في الليالي الباردة يخبئ خلفه أوجاع المقهورين. وأقول الساعة: عليك إن مررت بالقرب من غابة، صبحا أو مساء، أن تنصت قليلاً؛ لتسمع نواح الأشجار تلوك لحمها أسنان المناشير.
نحن بلد أخضر حتى أخمص قدميه. الغابات تملأ فضاءنا. لدينا غطاء شجري يوازي غابة الأمازون قبل حريقها الأخير. يا حسرتنا: نحن صحراء. الغابة لا تشكل إلا نصفًا بالمئة من مساحة بلادنا الرملية، ومع هذا تنتشر فينا اعلانات امتلاك مناشير خشب آلية خرساء.
لم أكره في حياتي اختراعاً مثلما كرهت هذه المنشاير. إنها ساحقة ماحقة. فأية شجرة مهما غلظت ساقها وطالت أغصانها، ومهما شاطت في العمر، وضربت جذرا في التاريخ وعمقه. تجزّها بدقائق معدودة، وكأنها ما كانت يوماً ظلا ظليلا.
على بوابة كل شتاء تندلق مدافئ الحطب معروضة للبيع أمام المحلات. وتنشط في ذات الوقت مافيات التحطيب، التي دأبت منذ سنوات على جز أشجار غابات عجلون وجرش، وبيعها للمقتدرين بعالي الاسعار. إنها على استعداد لتأمين البيوت بما تحتاجة من حطب سنديان وبلوط وقيقب. وهي تسرح وتمرح.
والسؤال الموجع: لماذا المناشير المجنزرة تكون خرساء. لماذا  خرساء؟ ما دام لا فرق لدى من يستخدمها أن تثرثر وتثرثر، دون حياء أو خوف. فمن أمن العقاب أجهز على غابة بصوت عال مسموع.
ولربما يعرف تماماً من يستخدم في بيته أو قصره الموقد الحطبي (الفير بليس)، أن سهرة ليلة واحدة في الشتاء تستهلك أكثر من شجرة سنديان عمرها يتجاوز الـ500 سنة. وربما يعلم المترفون منا، أن طلبهم للحطب (وتحديداً السنديان أو الملول) جعل المافيات تلهث وراء الثراء وتجز غاباتنا جزاً ممنهجاً. فبكل سهولة تستطيع أن تحصل على أرقام لهواتف تطلب من أصحابها الكمية التي تريد من كل أنواع الأحطاب.
أرى أن انتشار اعلانات لبيع مناشير الشجر الخرساء، يأتي منسجماً تماما مع الجينات الموروثة في دمنا ولحمنا. فنحن مع الأسف نمتلك عداء دفينا عميقا لأشجرنا. لا نرحمها، ولا نهتم لو جزت بليلة يملؤها القمر. بل نصمت عند قتلها واعدامها. ونتآمر على قطعها إن لزم الأمر. وقد يكون أن امتلاك مثل هذا المنشار، يداعب فينا شهوة قطع عارمة، تلوح في بال الكثير منا.
     لا داعي للمناشير أن تكون خرساء بكماء: لا فرق إن كانت بصوت عال لعلاع. فلا ثمة أحد في المدينة يسمع، أو يريد أن يسمع.