الدستور
نريد الحصول على كل حقوقنا، نريدها هنا، ونريدها في التوّ واللحظة- مارتن لوثر كنج.
قرأتُ مرةً واقعةً أوقفتني طويلًا: حين ألغت الإمبراطورية البريطانية العبودية رسميًا عام 1843، قدّمت تعويضاتٍ ضخمةً لمالكي العبيد بلغت عشرين مليون جنيه إسترليني أي ما يعادل نحو ثلاثمئة مليون دولار اليوم لقاء «خسائرهم» من فقدان ما كانوا يعدّونه ملكياتٍ بشرية! أمّا الضحايا الحقيقيون، أولئك الذين سُلبت حريتهم وكرامتهم عبر قرونٍ من الاستعباد، فقد تجاهلتهم بريطانيا تمامًا، لأن نظرتها لهم لم تتغيّر؛ إذ بقيت نظرةً متعاليةً استعلائيةً عنصرية.
واليوم، بعد أن ارتكب الكيان الصهيوني أفظعَ إبادةٍ جماعيةٍ في العصر الحديث ضدّ أهالي غزة، فقتل وأصاب مئاتَ الآلاف وشرّد الملايين، ما زال الحديث عن تعويض الضحايا أو محاسبة المجرمين غائبًا كليًا، وكأن دماء الفلسطينيين لا تستحق حتى الاعتراف، وكأنّ معاناتهم مجرّد رقمٍ في سجلٍّ إحصائي.
تطرح خطة ترامب للسلام إعادة إعمار غزة بتمويل عربي وأوروبي، من دون أن يُذكر ولو لمرةٍ واحدة أن الكيان الصهيوني سيتحمّل فلسًا واحدًا من كلفة الإعمار. بل المفارقة أن هذا الكيان يواصل تدمير الأحياء السكنية في القطاع حتى بعد إعلان ما أسموه هدنة!
من الناحية المنطقية والقانونية، يتحمّل الكيان الصهيوني بصفته قوة احتلال المسؤولية الكاملة عن إعادة إعمار قطاع غزة. فوفقًا لاتفاقيات جنيف، يلتزم المحتلّ بضمان حياة السكان في المناطق التي يحتلّها، بما في ذلك توفير السكن والغذاء والخدمات الصحية، والحفاظ على الصحة العامة والنظام الطبي. كما تلزمه الاتفاقية بالتعويض عن الدمار الذي أحدثه، والقيام بواجب إعادة الإعمار بوصفه التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا لا يمكن التنصل منه.
وليس هذا مبدأً نظريًا، بل حقيقة أكدتها عشرات السوابق التاريخية، حين اضطرت قوى الاحتلال إلى تحمّل مسؤولياتها في إعادة الإعمار: الولايات المتحدة في العراق عام 2003، واليابان بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، والاتحاد السوفييتي في أفغانستان عام 1979، وألمانيا النازية التي أُلزِمت بعد الحرب بدفع تعويضاتٍ وإعادة بناء ما دمّرته آلة الحرب.
من المفترض أن تقوم جامعة الدول العربية وفلسطين عضوٌ فيها بإثارة هذا الملف على المستوى الدولي، بالتنسيق مع المنظمات القانونية العربية والدولية، لرفع دعوى قضائية تُحمّل الكيان الصهيوني مسؤولية تكاليف إعادة إعمار غزة وكل ما خلّفه من دمارٍ إنسانيّ وماديّ جسيم.
أليس من الظلم أن يُعوَّض اليهود عن الهولوكوست، بينما يتم تجاهل مآسي الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لأكبر إبادةٍ جماعيةٍ في العصر الحديث، بالصوت والصورة أمام أنظار العالم؟ فقد دفعت ألمانيا مليارات الماركات تعويضًا لليهود، ولا يزال الناجون منهم يتلقّون مبالغ شهريةً أو سنويةً من الحكومة الألمانية، إلى جانب اعتذارٍ رسميٍّ عن الجرائم التي ارتُكبت.
أمّا الفلسطينيون، فلا بواكي لهم؛ فالصهاينة أثبتوا أنهم فوق القوانين الدولية، تحميهم الولايات المتحدة وتشاركهم في الإبادة، وتدافع عنهم في كلّ محفلٍ دولي، بل وتمضي أبعد من ذلك حين تعاقب كلَّ من يجرؤ على إدانة جرائمهم أو إصدار قرارٍ يُدينهم.
هناك قضايا عديدة مرفوعة أمام المحاكم الدولية تطالب قوى الاحتلال بالتعويض عن جرائمها، مثل ناميبيا ضد ألمانيا للمطالبة بزيادة قيمة التعويضات، وهايتي ضد فرنسا، واليونان ضد ألمانيا، وغيرها. كما تفكّر دولٌ أخرى في رفع دعاوى مماثلة، من بينها الجزائر ضد فرنسا ومصر ضد بريطانيا، لاستعادة حقوقٍ تاريخيةٍ نهبها الاستعمار عبر القرون.
لا أحد ينكر فضل الإخوة في دول الخليج الذين تحمّلوا العبء الأكبر في إعادة إعمار غزة عقب كلّ عدوانٍ صهيوني، لكن هذه المرة يجب أن يكون العمل موازياً: مساعدةُ المتضررين، مع تحريك ملفٍّ قضائيٍّ دوليٍّ يحمّل الجهة المسؤولة قانونيًا وأخلاقيًا واجب التعويض. لا يجوز أن نكتفي بالمساعدات بينما يفلت الجاني من المحاسبة ويتنصّل من إعادة الحياة إلى المدن والقرى المدمّرة.
دماء الفلسطينيين ليست رخيصة، ولا يجب أن تذهب هدرًا.