"الثقافة والمقاومة فعل واحد".. القيسي يحاضر في رابطة الكتاب
الغد-عزيزة علي
أكد القاص والمحامي جمال القيسي، في المحاضرة التي نظمها مركز "تعلم واعلم" للأبحاث والدراسات أول من أمس في رابطة الكتاب الأردنيين، وأدارها الدكتور أحمد ماضي، أن الثقافة والمقاومة فعل واحد، والفعل الثقافي ليس نشاطا ذهنيا محايدا أو معرفة منفصلة عن المجتمع، بل هو فعل أخلاقي جوهري. مذكرا بمقولة أنطونيو غرامشي "كل إنسان مثقف، لكن ليس لكل إنسان الوظيفة الاجتماعية للمثقف".
وشدد القيسي على أن المثقف الحقيقي يعي مسؤوليته تجاه مجتمعه ويستخدم الثقافة وسيلة للنقد والتحرر. فالأخلاق ليست مجرد التزام بالقيم، بل فعل تغييري جذري نابع من وعي تاريخي وموقف حازم من الظلم والاستغلال والفساد.
وأشار المحاضر إلى قول كارل ماركس "إن الوعي، أي الثقافة، هو الميدان الذي يعبر فيه الإنسان عن موقفه من العالم، يتضح أن الثقافة فعل أخلاقي تغييري لا يرضى بالواقع كما هو". ففي أطروحته الحادية عشرة عن فويرباخ قال ماركس "لقد فسر الفلاسفة العالم بطرق مختلفة، ولكن المهم هو تغييره"، واضعا بذلك أساسا لدور المثقف الفاعل لا المراقب، إذ يقاس موقعه الأخلاقي بمدى انحيازه للعدالة والكرامة الإنسانية.
ويرى القيسي، أن هذه المقولة وما تزال صالحة لتكون بوصلة لكل مثقف، فالمعرفة التي لا تتحول إلى أداة نقد ومقاومة تبقى ناقصة أخلاقيا مهما بلغت من التميز. وهو ما أكده غرامشي في "دفاتر السجن" حين قال "لا يمكن للمثقف أن يكون محايدا؛ فالثقافة موقف، والحياد تواطؤ". فكل إنتاج ثقافي، مهم بدا جماليا أو تقنيا، يعكس تصورا عن الإنسان والعدالة، والمثقف الذي يتجاهل ذلك يتنازل عن جوهر دوره.
ورأى المحاضر، أن السؤال الجوهري هنا هو: لماذا يخاف المثقف من أخلاقيته؟ أليست الكلمة في جوهرها موقفا، والصمت في وجه القهر تواطؤا؟ حين يغدو الفعل الثقافي مجرد إنتاج لغوي خال من الالتزام، يتحول إلى سلعة، ويغدو المثقف موظفا لا ضميرا.
واعتبر القيسي أن ماركس وغرامشي، رغم اختلاف السياقات بينهما، يلتقيان عند فكرة جوهرية مفادها بأن الثقافة لا تكتمل من دون موقف، ولا قيمة للموقف بلا أساس أخلاقي. فقد كتب ماركس في إحدى رسائله "ليست الأفكار هي التي تُحرّك التاريخ، بل البشر حين يؤمنون بأفكارهم"، لتبرز الأخلاق هنا بوصفها محركا للفعل والتغيير، لا مجرد وعظ أو تجميل للفكر.
وأوضح المحاضر أن هذه ليست دعوة إلى المثالية، بل إلى إعادة تعريف الالتزام، لا كخندق أيديولوجي، بل كخيار إنساني جذري. أن تكون مثقفا يعني أن تضع الإنسان في صميم رؤيتك، وأن تنحاز للمستضعفين والمهمشين، وتنتصر للطبقات المسحوقة، أن تعكر صفو الشر لا أن تهادنه، وأن تكتب لا لتملأ الفراغ، بل لتخترق الصمت.
وقال "إن الفعل الثقافي، حين ينتزع من أخلاقيته، يفقد روحه، والمثقف الذي لا يرى في نفسه صاحب مسؤولية تاريخية يتحول إلى بوق للسلطة وغريب عن طبقة المثقفين. ولعل المثقف الأردني والعربي اليوم، بعد مجازر الإبادة الصهيونية في غزة، مدعو أكثر من أي وقت مضى إلى استعادة هذا المعنى: أن يفكر ويكتب ويشارك، لا بوصفه مفسرا للعالم فحسب، بل فاعلا في تغييره، فذلك هو جوهر الأخلاق في الثقافة.
في زمن العدوان المتوحش المستمر على الشعب الفلسطيني، تتأكد مرة بعد مرة حقيقة أن المواجهة مع المشروع الصهيوني ليست صراعاً عسكرياً أو نزاعاً حدودياً فحسب، بل هي في جوهرها صراع على الرواية والمعنى والحق في الوجود الإنساني الكامل.
وإحدى ثغرات الخطاب العربي التقليدي في هذا السياق، انشغاله بالردود الآنية والعاطفية، على حساب بناء رؤية ثقافية استراتيجية بعيدة المدى، تحول المواجهة إلى مشروع إنساني وفكري وحضاري متكامل.
فلم يكتف المشروع الصهيوني، بصفته حركة استعمارية احتلالية، باغتصاب الأرض، بل سعى إلى طمس التاريخ ومحو الحضور العربي الفلسطيني عبر سردية استشراقية تزعم أن فلسطين كانت "أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض".
وكما أوضح المفكر إدوارد سعيد، فإن ما واجهه الفلسطينيون لم يكن مجرد نزعٍ لملكية جغرافية، بل انتزاعٌ لروايتهم عن أنفسهم ومحاولة لمحو وجودهم من الوعي العالمي. وساهمت النخب الثقافية الغربية المتماهية مع هذا المشروع في ترسيخ هذه السردية، من خلال البحث الأكاديمي، والنشر، والسينما، ووسائل "الدبلوماسية الثقافية".
في المقابل، لم تكن الهزائم السياسية والعسكرية التي مُني بها العرب كافية لهزيمتهم ثقافياً؛ فما تزال الثقافة، بكل محمولاتها المعنوية، تشكل خزاناً حياً للمقاومة الرمزية. وكما يرى عبد الوهاب المسيري، فإن تفكيك البنية المعرفية للصهيونية يتطلب مشروعاً حضارياً مضاداً، لا يكتفي بالنقد، بل يعيد الاعتبار للهوية والكرامة والمعنى.
ورأى المحاضر، أن التحدي الحقيقي اليوم، يكمن في تحويل الثقافة العربية من حالة انفعال إلى مشروع فاعل، لا عبر استعادة الخطاب الشعاراتي أو الدعوي، بل من خلال تطوير أدوات معرفية ولغوية وفنية تخاطب العالم بمنطق العدالة والحرية وحق تقرير المصير.
وأكد أن الثقافة القادرة على مواجهة المشروع الصهيوني ليست ثقافة كراهية أو رد فعل، بل ثقافة تقدم الإنسان العربي والفلسطيني بوصفه كائناً حراً، له تاريخ ضارب في العمق الإنساني، ولغة ساهمت في بناء الحضارة، ورؤية للمستقبل تتجاوز حدود سايكس–بيكو وهويات التجزئة.
وبين القيسي، أن المواجهة الثقافية تصبح ممكنة وضرورية حين يُعاد إحياء المشروع النهضوي العربي كخيار تاريخي يتجاوز المراهنة على الأنظمة أو التحالفات الظرفية. فالكلمة في زمن الاستعمار الجديد ليست مجازاً بل سلاحا، وكتابة الرواية والتاريخ والفن والفكر جبهات مقاومة لا تقل أهمية عن جبهات الاشتباك الميداني.
وأشار إلى أن المشروع الصهيوني، رغم قوته العسكرية والتكنولوجية والدبلوماسية، يعاني مأزقاً أخلاقياً متفاقماً أمام الرأي العام العالمي، خصوصاً بعد المجازر المتكررة في غزة. وفي ظل تزايد وعي العالم بالظلم التاريخي الواقع على الشعب الفلسطيني، تزداد الحاجة إلى خطاب ثقافي عربي إنساني لا يطلب الشفقة، بل يؤكد الحق في الأرض والرواية والكرامة.
وقال القيسي "إنه في المواجهات الكبرى، لا يمكن فصل دور المثقف عن مهمة المقاومة؛ فالثقافة ليست مجرد إسناد معنوي أو تعليق على الأحداث، بل فعل أصيل يسير جنبًا إلى جنب مع المقاومة في الصمود وانتزاع الحق. الكلمة، في لحظات التاريخ الحاسمة، تتحول إلى سلاح لا يقل تأثيرًا عن البندقية".
ورأى، أن المثقف الحقيقي لم ينفصل يومًا عن حقه وقضايا شعبه ومجتمعه وتاريخه وأرضه، إلا حين يتخلى عن انتمائه للثقافة نفسها. ففي الحربين العالميتين، انحاز مثقفو أوروبا إلى أوطانهم، وكتبوا دفاعًا عنها رغم اختلاف مذاهبهم الفكرية، متحدين انحيازًا للوطن في ساعة الحقيقة.
وقال القيسي، في فرنسا، لعب جان بول سارتر وألبير كامو وآخرون دورًا محورياً في مقاومة النازية بالكلمة والفكر، بينما تحولت الثقافة في الاتحاد السوفييتي إلى جبهة قتال ثانية، حيث عزز الأدباء والفنانون الروح المعنوية لشعوبهم. هذه التجارب، ومع تجارب التحرر في الجزائر وجنوب أفريقيا، تثبت أن الثقافة لا ينبغي لها أن تقف على الحياد في مواجهة الاستعمار والاحتلال.
وتابع المحاضر، على النقيض من هذا الموقف، ما يزال بعض المثقفين العرب مرتبكين أمام ما يجري في فلسطين وغزة، فيصفون بطولة المقاومة بالمغامرة السياسية أو القفز في المجهول، أو يكتفون بالتباكي على الضحايا، متجاهلين الاحتلال كفاعل حقيقي للجريمة. هذا الموقف الانهزامي لا يقل خطورة معنويًا عن أفعال العدو، ويستحق الإدانة الأخلاقية والسياسية مثلما ندين الاحتلال وجرائمه.
واختتم القيسي حديثه بالقول "اليوم، تقع على عاتق المثقف العربي مسؤولية تاريخية، تلزمه بقيادة معركة التاريخ والوعي بجرأة ووضوح، من خلال فضح خطاب الاحتلال وامتداداته. فالمقاومة لا تُستهدف بالسلاح وحده، بل بمحاولات العزل والتشويه والتزييف، والمثقف الذي يتمسك بقيم الحق والحرية والعدالة هو أحد جنود هذه الجبهة، يكتب ليبقي المعنى حيًا في الحياة والكرامة، ويحرص على أن تظل الثقافة شقيقة المقاومة في معركة التحرر الوطني".