غزة على حافة التجربة.. دروس الإدارة الأجنبية من كوسوفو إلى العراق
الغد
يتصدر النقاش حول مستقبل الحكم في قطاع غزة أروقة السياسة الدولية والإقليمية، وسط تساؤلات عن قدرة المجتمع الدولي على إيجاد صيغة انتقالية تتجاوز إخفاقات التجارب الدولية السابقة.
وفي حين أكدت الفصائل الفلسطينية خلال اجتماعها في القاهرة توافقها على تسليم قطاع غزة إلى لجنة فلسطينية مؤقتة من أبناء القطاع تتشكل من المستقلين "التكنوقراط"، تسعى جهات دولية لفرض إدارة أجنبية انتقالية على القطاع، وفق أحد السيناريوهات التالية المقترحة:
- إدارة مدنية دولية: وهو اقتراح تبلور في أروقة الأمم المتحدة والبيت الأبيض يقضي بإرسال إدارة مدنية أجنبية لتسيير شؤون القطاع، مثل مقترح "اللجنة الدولية لإدارة غزة" (GITA) لإدارة مدنية انتقالية تحت إشراف دولي مباشر يرأسها توني بلير.
- حزام غزة الإنساني: وهو تصور نقلته "بي بي سي" عربي عن رويترز يضم مراكز خدمية وقواعد للقوات الدولية لتثبيت الاستقرار ونزع السلاح.
- غزتان: وهو ما نقله خبير من الاحتلال الإسرائيلي ويدعى ميخائيل ميلشتاين عن مشروع يقسم القطاع إلى جزء مزدهر يخضع لإشراف دولي وآخر مدمر تحت حكم حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في محاولة يائسة لإضعاف الحركة عبر "الهندسة الاجتماعية".
وكان رئيس حركة حماس في غزة خليل الحيّة قال قبل عدة أيام أن الحركة ستُسلم مقاليد الإدارة، بما فيها الأمن، للجنة وطنية توافقية، مع الحفاظ على وحدة القرار الوطني.
كما أكد الحية أنه "ليس لدى الحركة أي تحفظ على أي شخصية وطنية مقيمة في غزة لإدارة القطاع، وستسلم كل مقاليد الإدارة بما فيها الأمن".
وتبرز الحاجة إلى تحليل ومقارنة السيناريوهات المطروحة في ضوء تجارب الإدارات الدولية السابقة، مثل كوسوفو، وتيمور الشرقية، والعراق، والبوسنة والهرسك، بجانب نموذج السلطة الفلسطينية، لتقييم مدى قابليتها للتطبيق في غزة بعد انتهاء الحرب.
تجربة كوسوفو أظهرت أن فرض السلام من الخارج جعل الدولة رهينة للجهات المانحة، ولم تتمكن كوسوفو من بناء جيش أو مؤسسات مستقلة فعليا.
وهو ما أراده الصرب، ورغم تعهد الرئيس الصربي الأسبق بوريس تاديتش بعدم اللجوء للقوة لمنع هذا الاستقلال، فإنه قال: "لا يمكن اعتبار كوسوفو دولة ذات سيادة ونرفض الاعتراف باستقلالها".
ولا تزال كوسوفو في صراع مفتوح، ولا تزال صربيا تعتبر كوسوفو رسميا جزءا من أراضيها.
تيمور الشرقية بين الاستقلال والتبعية
في عام 1999، خضعت تيمور الشرقية لإدارة الأمم المتحدة بعد انفصالها عن إندونيسيا، وأصبحت دولة مستقلة رسميا، لكن المتنفذين في تيمور الشرقية أسسوا علاقات اقتصادية وإدارية غير مؤسسية مع الجهات الدولية، فطغى على البلد عدم الاستقرار السياسي وغياب الإصلاحات.
وقد وصف الزعيم الثوري السابق خوسيه راموس هورتا، الحاصل على جائزة نوبل للسلام، تجربة بلده بأنها "خلّفت نخبة مرتبطة بالمانحين وانقطع المجتمع عن جذوره".
أما عن تجربة العراق بعد غزوه عام 2003، فتولّت السلطة الائتلافية المؤقتة التي خضعت لقيادة الإدارة الأميركية إدارة شؤون البلاد، وتم تشكيل سلطة الائتلاف المؤقتة، وهي الوكالة المدنية المكلفة بإعادة إعمار العراق بعد الحرب، برئاسة بول بريمر، الذي كان المهندس للمحاصصة الطائفية وواضع أسس الفساد وإشاعة الفوضى وتحطيم مؤسسات الدولة.
وتم حل كل من وزارة الدفاع العراقية، والجيش، والقوات الجوية، والبحرية، وغيرها من المؤسسات الأمنية والعسكرية، وترك هذا القرار مئات الآلاف من الجنود والموظفين الحكوميين بلا عمل أو راتب، مما خلق فجوة اقتصادية واجتماعية وأمنية، وأسهم بتصاعد الهجمات المسلحة ضد قوات الاحتلال.
كما أشار تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش لعام 2006 إلى أن تفكيك المؤسسات الأمنية ترك آلاف العراقيين بلا دخل، مما فاقم حالة الفوضى.
اما عن تجربة السلطة الفلسطينية، فهي بين فكي الاحتلال والوصاية، منذ اتفاق أوسلو، والحكم هناك يجمع نموذج السلطة الفلسطينية بين الحكم الذاتي والإشراف الأجنبي المكثف، حيث أشرف الجنرال الأميركي كيث دايتون على تدريب الأجهزة الأمنية، ووجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام خطةٍ أمنية أميركية تتم فيها مقايضة الأمن بالاقتصاد.
وبعد 30 عاما، وجد الفلسطينيون أن الاتفاقيات تغرق السلطة بطلبات تعجيزية، وتسحب منها التمويل والتمثيل والثروات والقدرة على الحركة.
نزع السلاح.. دروس من تجارب دولية
تُظهر التجارب أن نزع السلاح بعد الصراع قضية سيادية وليست تقنية فقط، كما تظهر التجارب السابقة أخطار الموافقة على نزع السلاح، إذ أصبح السلاح جزءا من رقابة القوى الأجنبية، وكان له تأثير واضح على القرارات الوطنية والهوية الثقافية.
سلاح المقاومة
ومع توالي دعوات نزع سلاح المقاومة في غزة من قبل جميع الأطراف، أكد خليل الحية أن "سلاحنا الذي نحمله، نحن وكل الفصائل الفلسطينية، مرتبط بوجود الاحتلال والعدوان، فإذا انتهى هذا الاحتلال وأقيمت لنا دولة فلسطينية، فهذا السلاح وحاملوه سيتحولون إلى الدولة".
وترى المقاومة أن السلاح يظل مرتبطا بالدفاع عن الأرض ومواجهة الاحتلال، وليكون أداة أمنية داخلية لحماية المدنيين وضمان الاستقرار، مع التحذير من خطر السلاح المنفلت الذي قد يُستغل للعنف الداخلي أو ضد المدنيين.
أما بخصوص القوات الدولية والأممية، فقد أكدت الفصائل الفلسطينية على لسان الحية قبولها بالقوات الأممية بوصفها قوات فصل ومراقبة للحدود ومتابعة لوقف إطلاق النار، مشددا على أن القرار الأممي سيحدد نوعية هذه القوات ومدتها وآليات عملها. وأشار إلى أن هذا التوافق تم مع حركة فتح أيضا.
إعادة الإعمار
تشكل النماذج السابقة تحذيرا كبيرا للتجربة الانتقالية في غزة، لكي لا تكرر تجارب الإدارات الأجنبية، إذ تنمو أضرار وكوارث التبعية طرديا مع أي توسيع لدور المانحين في تحديد ميزانية القطاع أو الإشراف على مشاريع إعادة الإعمار.
وفي هذا السياق، يحذر الخبير الاقتصادي عمر شعبان، بعد حرب 2014، من أن آليات الإعمار التي تقودها الأمم المتحدة والدول المانحة أعادت إنتاج الحصار وفتحت المجال للفساد.
واليوم، يؤكد خبراء محليون ودوليون أن أي إدارة خارجية مشروطة لإعادة إعمار غزة، ما لم تُبنَ على سيادة القرار الفلسطيني واستقلال صندوق الإعمار، قد تعيد إنتاج أدوات السيطرة نفسها التي شهدتها التجارب السابقة.
الإعمار والسيادة ولعبة الأمم
تقف الإدارة الوطنية في غزة أمام تحديات هائلة تتعلق بملفات إعادة الإعمار والنزوح الداخلي والاستقرار الاجتماعي، في ظل أضرار غير مسبوقة طالت البنية التحتية والاقتصاد.
ووفقا للتقرير المشترك الصادر عن الأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي، فإن احتياجات إعادة الإعمار في غزة والضفة الغربية تقدر بنحو 53.2 مليار دولار على مدى 10 سنوات، منها نحو 20 مليار دولار عاجلة مطلوبة خلال السنوات الثلاث الأولى.
كما تُقدَّر الأضرار المادية بنحو 30 مليار دولار، والخسائر الاقتصادية بما يقارب 19 مليار دولار، وفق ما جاء في التقرير المنشور على مواقع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
السيادة الفلسطينية شرط أساسي
تُظهر تجارب كوسوفو وتيمور الشرقية والعراق والإدارات الأجنبية فيها، وكذلك تجربة غزة، أنها اتخذت غالبا شكل صيغة استعمارية محدثة ووصاية بغطاء إنساني من الخارج، وكانت أداة لتكريس نفوذ القوى الغربية المنتصرة.-(وكالات)