عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    19-May-2024

النزوح إلى المجهول.. رحلة الغزيين في البحث عن الأمان المفقود

 الغد-تغريد السعايدة

 نزوح بعد نزوح، البحث عن بقعة آمنة، حتى وإن كانت تحت أنقاض منزل مهدم، دون وجهة، لا الجنوب بات آمناً، ولا الشمال. ووسط، غزة، كل البقاع معرضة للقصف والدمّار، حيث يلاحق الغزيين شبح الموت في كل مكان، منذ أن بدأت قوات الاحتلال اجتياح رفح على فترات.
 
 
منذ السابع من أكتوبر، والجميع في حالة نزوح، من الشمال إلى الوسط، وفي النهاية كانت "رفح" في الجنوب هي المكان الآمن، نوعاً ما، كونها تُعد مخرجاً للراغبين في المغادرة خوفاً من تناثر أشلاء أطفالهم، أو من أن تتاح لهم الفرصة للعلاج في الخارج، بيد أن الحال الآن بات مختلفاً، لا مكان آمن، والحصار في غزة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وقذائف الموت، تطارد الصغار شمالاً وجنوباً.
 
"لا مكان آمن ورفح باتت مدينة أشباح"، هذا ما جاء في بيان للأونروا مؤخراً، ويتحدث بأن "ما يقارب 450 ألفا من سكان غزة قد تم تهجيرهم قسرا من رفح والعائلات الفلسطينية انتقلت إلى أقصى الغرب قدر الإمكان حيث وصلت الآن إلى الشاطئ، ومن الصعب تصديق أن أكثر من مليون شخص كانوا يقيمون هنا قبل أسبوع واحد فقط".
مشاهد لا يمكن أن يغفلها العالم، لأطفال يحملون أطفالا، وجرحى يحملون آلامهم معهم، ومكلومين بقلوب مكسورة، فقدوا أحباءهم وعائلاتهم، يتنقلون من مكانٍ لآخر، دون هدف سوى البحث عن الأمان، مئات المقاطع التي يتم بثها يومياً عر مواقع التواصل الاجتماعي، يتحدث بها نازحو القطاع من كل مكان عن مأساتهم الحقيقية التي تتمثل بالانتقال من مكان إلى آخر، لا وقت للاستقرار في مكان حتى وإن كان خيمة.
أحد المقاطع، ظهرت فيه طفلة صغيرة، تالا، ذات الأحد عشر عاماً، تتحدث فيه عن وجعها وقهرها وهي تجمع بقايا أغراضها المفضلة للبحث عن منطقة آمنة مع عائلتها التي تستعد كما آلاف العائلات للخروج من رفح، علّهم يجدون مكاناً أكثر أماناً، وهو من الفرضيات الصعبة التحقق، خاصة وأن الحرب وكأنها عادت أدراجها مرة أخرى، وتتساءل تالا "أينما نذهب لا يوجد مكان آخر آمن في غزة؟".
تالا تتحدث بلسان جميع أطفال غزة الذين ما يزالون على قيد الحياة، يلحقون بذويهم أينما حلوا، خيمة، خلف جدار، بيت مهجور، للإقامة فيه ولو لأيام إلى حين نزوحهم مرة أخرى، فلا مجال للاستقرار في الوقت الحالي، وهو كذلك ما يمكن رؤيته وقراءته في وجوه النازحين، وبخاصة ممن يخوض تجربة النزوح خلال هذه الحرب للمرة الثالثة أو الرابعة على التوالي، كما في سكان الشمال.
المديرة الإقليمية لليونيسف لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أديل خُضُر، قالت في تصريح صحفي للحديث عن الوضع الراهن في غزة، ورفح على وجه التحديد، "إن المدنيين منهكون بالفعل، ويعانون من سوء التغذية، ويواجهون العديد من الأحداث المؤلمة، هم ذاتهم من يواجهون الآن المزيد من الموت والإصابة والنزوح بين أنقاض مجتمعاتهم، وجميع العمليات الإنسانية التي أصبحت شريان الحياة الوحيد لجميع السكان في جميع أنحاء القطاع مهددة".
كما بينت خضر أن العملية العسكرية في رفح، ساهمت إلى ما قبل أيام، إلى نزوح ما يقارب نصف مليون شخص من رفح، بيد أن هؤلاء الأشخاص نزحوا إلى مناطق غير آمنة، بالتوازي مع قصف شديد، مخلفًا دمارًا كبيرًا في مناطق مثل مخيم جباليا للاجئين وبيت لاهيا، وتقول "بعد أكثر من سبعة أشهر من النزاع، وخسارة عشرات الآلاف من الأرواح ودعوات لوقف إطلاق النار، لا يزال العنف مستمرا، يجب أن تتوقف الأسلحة وتُحترم حقوق أطفال غزة، الذين عانوا من أهوال لا يمكن تصورها، يستحقون وقفا فوريا لإطلاق النار وفرصة لمستقبل يسوده السلام".
ومن المشاهد كذلك التي تعتبر مؤلمة للغزيين هو اضطرار الكثيرين للعودة من رفح إلى مناطق سكنهم القديمة غير الآمنة، والجلوس أمام بيوتهم المهدمة بالكامل، بل ومما يزيد الحزن أكثر أن هناك الكثير من "جثث الشهداء" ما تزال تحت تلك الأنقاض، فلا هم من نزحوا إلى رفح التي كان يُعتقد أنها آمنة حتى فترةٍ ما، ولا هم بقوا في بيوتهم آمنين.
أحد السكان، ينقل الصورة للعالم، من خلال تصويره "سيلفي" مع بيته المدمر بالكامل، ويقول "هذه بيوتنا التي عدنا لها على أمل أن تكون مناطق آمنة، ولكن لا مكان آمن الآن، كما تظهر في ذات الوقت مقاطع لعجوز تتكئ على عكازها وحيدة تسابق الخطوات علها تجد أحداً يساعدها في إكمال طريقها برفقة الآخرين إلى مكان آمن، وهو أمر بات صعب المنال الآن.
هذه الحالة من النزوح القسري غير الموجهة، وإعادة التركيب السكاني للمجتمع الغزي، بسبب هذه الحالة من الحرب المستمرة هناك، والقصف في كل مكان، له تأثير على طبيعة المجتمع الآن وعلى المدى البعيد.
وهنا تقول الاختصاصية والخبيرة في علم الاجتماع الدكتور فاديا إبراهيم إن مفهوم النزوح القسري يشير إلى طبيعة أوضاع الأشخاص الذين يغادرون منازلهم أو يفرون منها بسبب الصراع، أو الاضطهاد، أو انتهاك حقوق الإنسان أو العنف أو المخاطر الأخرى، بحثا عن الأمن ولقمة العيش، وكثيرا ما يعانون، ويتركون عالقين لينتهي بهم المطاف إلى مقاصد ليس بها فرصة لمعرفة أي وجهة للمستقبل.
ووفق إبراهيم، فإن النزوح أثناء الحرب مقترن بمواطن الضعف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمؤسسية، ويمكن أن يؤدي إلى الهشاشة في المجتمع بأكمله، لما يسببه من معاناة إنسانية هائلة، وهو مصدر قلق إنساني حيث أن الرعاية والاستمرارية تصبح صعبة، خاصة في الحالات التي يطول أمدها لما لها من آثار اجتماعية واقتصادية وصحية ونفسية كبيرة على النازحين . 
وأكثر ما يجب التركيز عليه في نزوح أهل غزة، على وجه الخصوص، كما تقول إبراهيم، هو دعم الأشخاص المتنقلين على إنقاذ أرواحهم ومنع المعاناة ومساعدتهم على التكيّف مع مخاطر وتحديات النزوح، والعمل على حماية كرامتهم واستعادتها، ويجب أن نتذكر أنه في كثير من الأحيان، يُحرمون من المساعدة الإنسانية والحماية التي يحتاجون إليها لضمان سلامتهم وكرامتهم وحقوقهم. وفق إبراهيم.
ولكون جيش الاحتلال، وبعد احتلاله رفح، قام بإغلاق المعبر والمنفذ الوحيد الذي كان مخرجاً للباحثين عن العلاج، وكان مصدراً لدخول المساعدات اليومية إليهم، فقد ساهم ذلك بحرمان القطاع من وصول المساعدات الإنسانية التي تنقذ حياتهم كالطعام والوقود والخيام والعلاج والمستلزمات الصحية الأساسية.
وتؤكد إبراهيم أنه يجب الدفاع عن احتياجات النازحين وحقوقهم وسلامتهم ووصولهم دون عوائق إلى الخدمات الأساسية، حيث أن أكثر ما يبحث عنه النازحون في غزة هو بالتأكيد حفظ أرواحهم وحماية أطفالهم، يتجهون من الخوف من الموت، إلى الخوف من المجهول فلا شيء واضح أمام النازحين في غزة خلال هذه الفترة، ويسعون في الأرض خوفاً وبحثاً عن الأمان والاستقرار بعد أن تركوا أماكن سكنهم وكل ما يملكون واتجهوا نحو العدم لا سكن ولا طعام ولا أي فرصة مهيأة للحياة.
عدا عن ذلك، تتحدث إبراهيم عن أن حجم الخسارة المادية لم يعد هو الهمّ لدى الغزيين، وإنما ما يواجهونه من خسائر وتحديات نفسية، قد تكون أصعب الحالات التي يمكن أن يعيشها أي شخص على هذه الأرض، لأن الغريزة التي يتشبث بها البشر هي غريزة البقاء، وفي غزة باتت الأرواح مهددة في كل لحظة بالموت أو خسارة أي قريب.
"المجهول صعب وتوفير الاحتياجات في ظل النزوح صعب جداً ويصل الإنسان إلى أصعب وأشد مراحل من المعاناة"، وفق إبراهيم، أما مجتمع الأشخاص النازحين فهو مجتمع مُنهك من كل النواحي الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، وهو مجتمع للألم والمعاناة فقط وخاصة في ظل الظروف الخاصة التي يعيشها النازحون في غزة من منع وصول المساعدات لهم بعدة أشكال.