من أثينا إلى عمان.. أفلام تعيد تشكيل الحكاية اليونانية
الغد-إسراء الردايدة
في مسرح مفتوح على مساءات آيار، وتحت سماء عمّان، تُعرض أربعة أفلام يونانية بين 26 و29 من الشهر الحالي ضمن تظاهرة تنظمها الهيئة الملكية الأردنية للأفلام بالتعاون مع السفارة اليونانية. ليست هذه مجرد عروض سينمائية، بل رسائل بصرية شديدة التباين، تنبض بالحنين، وتضطرب بالحيرة، وتشتبك مع مفاهيم الذكورة، الفقد، والخوف الجماعي.
لا تسعى هذه الأفلام إلى الإرضاء، ولا تساوم على الإيقاع أو البناء. بل تتبنى التوتر، الصمت، العبث، والغرائبية كأدوات تفكيك للواقع. من عزلة أم وابنتها في قرية نائية، إلى انهيار ذكوري هادئ في شقة بلا معنى، مرورا باعتراف إذاعي في منتصف الليل، ووصولا إلى مواجهة فلكلورية بين الإنسان والمجهول... يقدم هذا البرنامج ملامح سينما يونانية ما تزال، رغم كل شيء، تحفر خارج السياق.
الأفلام الأربعة تُظهر تنوعا لافتا في السينما اليونانية الحديثة، من التأمل الداخلي إلى النقد الاجتماعي، ومن الحلم الفردي إلى الكوابيس الجماعية. لا تقدم جميعها بناء دراميا متينا، لكنها تفتح فضاء واسعا للتجريب والتعبير. لكل مخرج صوته الخاص، وهذا ما يمنح هذه التظاهرة السينمائية خصوصيتها.
ﺑﻮليدروسو
بتوقيع ألكسندر فولغاريس، المعروف بلقبه الفني "The Boy"، هو مخرج يوناني متعدد المواهب، جمع بين الموسيقا والفن البصري والإخراج السينمائي. تتميز أفلامه بطابعها التأملي والمضاد للسرد الكلاسيكي، حيث يفضل الانطباعية الشعورية على الأحداث. فيلمه L الذي عُرض في مهرجان Sundance كان مثالا على توجهه نحو التجريب السردي والحدّ الأدنى في الأداء.
يغرق فولغارس في سكونه، ففيلم "Polydroso" ليس عن العودة، بل عن الاستسلام. لا يقدّم لنا صوفيا ولا والدتها كشخصيات قابلة للانفصال عن الفضاء المحيط بهما. القرية ليست مجرد ديكور بل هي انعكاس فوري ومباشر للذاكرة، والأهم، للندم. فولغاريس، هذا الفنان البصري الذي ينتمي إلى مدرسة الحزن غير المعلن، يخلق مناخا مضغوطا من الصمت والنظرات غير المُفسّرة.
تدور أحداث الفيلم في قرية بوليدروسو النائية، حيث تعود صوفيا الابنة لتعتني بوالدتها العجوز. عودة الابنة إلى المكان تعني أكثر من مجرد رعاية، فهي رحلة مواجهة مع الطفولة والماضي وقرارات الهروب القديمة. البلدة، في تصميمها المعماري وضبابها المعنوي، تؤدي دور الحاضنة لذكريات مشوشة، ويغيب الحاضر ليصبح الزمن نفسه متداخلا بين ما كان وما لم يشف.
يوظف فولغاريس لغة بصرية تعتمد على الإضاءة الطبيعية، واللقطات الثابتة التي تمنح الشعور بأن الزمن متوقف. الحوار محدود، بينما الإيماءات والتفاصيل البسيطة (مثل تحريك ستارة أو نظرة طويلة من نافذة) تحمل ثقلا دراميا كبيرا. المشاهد لا يحصل على إجابات واضحة، بل على مزيد من الغموض حول العلاقة بين الشخصيتين.
الفيلم لا يُقدَّم على أنه سرد تقليدي، بل كحالة نفسية، تجعلك كمشاهد مشتركا في التأمل، لا مستهلكا لحبكة. ورغم ذلك، قد يبدو للفيلم طابع نخبوي أو مُنفر لبعضهم ممن يفضلون الإيقاع السريع أو العقد الدرامية الواضحة.
أداء الممثلتين لا يحتمل العاطفة الزائدة، بل يُبنى على الاقتصاد. كل مشهد يُعامل كما لو كان لوحة فنية تُشاهد بهدوء. الكاميرا لا تلاحق، بل تراقب. فيلم مضاد للتشويق، يخلق توتره من ثباته. قد يرى بعضهم فيه نزعة نخبوية، لكنه في جوهره تمرين على الغفران البطيء. فيلم لا يخاطب، بل يصمت بجوارك.
الحضور النسائي في الفيلم قوي ومتماسك، لكنه يتجنب المبالغة العاطفية، ويقدم صورة للعلاقة الأمومية بوصفها مرآة للحنين والخوف من التكرار.
تفاصيل حادت عن الطريق
هاريس فافياديس يدخل السينما الروائية الطويلة من بوابة النقد الاجتماعي. خلفيته في المسرح تمنحه قدرة على توجيه الممثلين بعناية، بينما تتجلى قدرته على التقاط مفارقات الحياة اليومية من خلال السيناريو الذي كتبه بنفسه. أسلوبه يميل للرمزية الساخرة ويستمد الكثير من تأثيرات السينما الأوروبية الحديثة.
في تقاطع عبثي بين كلب ميت وسيرة ذاتية براقة ظاهريا، يبدأ الفيلم بتفكيك الواجهة المصقولة لحياة تبدو ناجحة لكنها متآكلة من الداخل، يفكك فافياديس أحجية الرجولة المعاصرة. فيلم يحمل روح الفيلسوف والمسرحي "ألبير كامو"، لكن بروح دعابة رمادية أقرب إلى أوجاع منتصف العمر. فانس وبافلوس ليسا فقط شخصيتين بل تمثيلا دقيقا لانهيار الطموح عندما يتكئ على وهم.
الحوار في هذا الفيلم هو السلاح، لكنه لا يُطلق. بل يُؤذِن بانهيار وشيك. الكوميديا السوداء لا تأتي من الموقف بل من الإدراك: إدراك أن هذا العالم لا يهم، وأن كل انهيار يبدأ من لحظة لا معنى لها. هناك مشاهد تتسلل إلى ذاكرتك ليس لأنها صادمة، بل لأنها حقيقية جدا. هذه ليست قصة، بل تعرية.
يروي الفيلم حكاية فانس، الذي فقد بريقه كمشهور تلفزيوني، وبافلوس، رجل أعمال يعيش حياة "مثالية" لكنها خاوية. التقاطع بينهما يحدث في سياق عبثي بعد موت الكلب موفين، في سلسلة من المواقف التي تكشف كيف يمكن لحياة كاملة أن تنزلق بسبب "تفصيل تافه".
الفيلم يتناول الأزمة الذكورية بتعقيد غير مباشر. الشخصيات تعيش اغترابا عن ذاتها وعن المحيط، ويُسقط المخرج أسطورة النجاح المهني باعتبارها وهما. الحوار مكتوب بذكاء، ويحتوي على نبرة ساخرة خافتة لكن مؤلمة.
الزمن في الفيلم غير منتظم، مما يُجبر المشاهد على إعادة تشكيل الرواية داخليا. الشخصيات الثانوية غالبا ما تُستخدم ككائنات رمزية لخيبة أمل المجتمع الأوسع (مثل الطبيب النفسي، الموظف، والحبيبة السابقة). هذا يعكس بناء شعريا للفيلم، لكنه أيضا قد يُربك المشاهد غير المعتاد على هذا الأسلوب.
فافياديس في فيلمه لا يتخذ مواقف مباشرة بل يطرح الأسئلة: هل فقدان الكلب هو لحظة انهيار أم عذر للهروب من الذات؟ بهذا المعنى، الفيلم مفتوح على تأويلات متعددة.
إذاعة أثينا في منتصف الليل
رينوس هارالامبيديس من الأصوات المعروفة في السينما اليونانية المستقلة، غالبا ما يتناول مواضيع الوحدة، الهجرة الداخلية، والتحولات الصامتة في المدن. كمخرج وممثل، يملك وعيا لغويا وجسديا عميقا، ويستثمر في التفاصيل الحركية والنصوص الصوتية الطويلة.
ما الذي يحدث حين تُطلق أفكارك في الظلام، ولا يعود أحد يرد؟ هذه هي معضلة "Athens Midnight Radio". ليس فيلما بالمعنى التقليدي بل هو مونولوج طويل ينتقل بين محطات الروح. أداء المذيع يشبه السرد الشعري، ومع كل جملة هناك خيبة، ومع كل تذكُّر، هناك انسحاب.
هارالامبيديس يصور أثينا كجثة ما تزال تنبض. المدينة نفسها غائبة، بينما تملأ الذكريات الهواء. الفيلم لا يسعى لإرضائك، بل يمنحك ما يشبه التراكم العاطفي غير المنظم. لا شيء يُحل، لا شيء يُشفى. فقط البث مستمر.
بطله مذيع إذاعي ليلي، يقضي ليلة عيد ميلاده في مراجعة حياته من خلال موجات الأثير. تتخلل القصة تسجيلات صوتية ورسائل قديمة تعيده إلى قصة حب لم تكتمل، وقرار لم يتخذه في وقته. هذه الليلة ليست فقط لحظة اعتراف، بل أيضا انكشاف عن مدى الانفصال عن العالم.
يعتمد الفيلم على الصوت كعنصر درامي رئيس، وهو أمر نادر في السينما البصرية. الصورة تُستخدم كخلفية للشعور، وليس كوسيلة للسرد. استخدام الراديو هنا ليس فقط أداة حكائية، بل رمز للعزلة العصرية، ولعالم داخلي لا يصل إليه أحد.
المونولوجات، رغم طولها، مكتوبة بعناية وتكشف انكسارات الشخصية دون مبالغة. لكن الفيلم يفتقر إلى تنوع الأصوات، حيث ينحصر في وعي شخصية واحدة، ما يجعله أقرب إلى عرض مونودرامي سينمائي. رغم ذلك، فإن قدرته على بناء جو نفسي ثقيل باستخدام الحد الأدنى من العناصر تحسب له.
مينوري
كونستانتينوس كوتسوليوتاس مخرج يتمتع بخلفية تقنية قوية، عمل في مجال المؤثرات البصرية لأفلام دولية، ما ينعكس في فيلمه من خلال احترافية الصورة والمؤثرات العملية، ففيلمه مينور هو مشروعه الخاص الذي يعود فيه إلى الجذور اليونانية، لكنه يستخدم قالب الرعب والموسيقا للحديث عن الاضطراب المجتمعي.
تدور في مدينة ساحلية حيث تعمّ الضباب فجأة، وتبدأ مخلوقات غريبة بخطف السكان. يلتقي عدد من الموسيقيين مع بحّار يبحث عن والده، في محاولة لمواجهة الكارثة التي تُغلفها الأساطير. القصة تمزج بين الفولكلور والأكشن والنوستالجيا.
رعب شعبي بصيغة يونانية خالصة.
"Minore" هو ضحك هستيري في وجه الخوف، وهو فيلم يبدو وكأنه نتج من حفلة سمر طويلة مع أرواح أجداد المتوسط. الأسطورة تتحوّل إلى سينما مجازية، والمخلوقات المرعبة تحمل في شكلها سخرية عميقة من كل ما هو خارجي.
كوتسوليوتاس لا يصنع فيلم رعب فقط، بل حكاية هجينة بين النوستالجيا الموسيقية والجنون البصري. الميناء ليس مجرد خلفية، بل هو نُقطة تسرّب للواقع. الشخصية تبحث عن والدها كما يبحث الفيلم عن توازن بين هويته الشعبية وطموحه السينمائي. ليس عملا متماسكا، لكنه ممتع بشراسة.
الفيلم مغامرة بصرية غنية، لكنه بعيد عن الانسجام السردي. يظهر وكأنه مكون من مشاهد منفصلة متصلة بأسلوب مجازي أكثر منه حبكة متماسكة. المؤثرات المستخدمة واقعية ومصنوعة يدويا، ما يمنحه طابع أفلام الرعب الكلاسيكية.
ورغم ذلك، فإن بناء الشخصيات ضعيف، وافتقاد الفيلم إلى مراكز شعورية ثابتة يجعله عرضة للتشتت. مع ذلك، تبقى نقاط قوته في المزج الجريء بين أنماط سينمائية، وفي القدرة على جعل التجربة بصرية وموسيقية بامتياز"Minore" هنا يعد فيلما مغامرت قد لا يُقنع سرديا، لكنه يحمل جرأة لافتة في كسره للتقاليد.
كل فيلم في هذه المجموعة يعكس مقاربة مختلفة للسينما، من القصيدة الصامتة إلى العبث، ومن العزلة الداخلية إلى الخيال الشعبي. ما يجمعها هو نزوع للتأمل وابتكار لغة سينمائية خارج السائد، حتى عندما تفقد توازنها أحيانا. السينما اليونانية المعاصرة هنا لا تدّعي الكمال، لكنها بالتأكيد تجرؤ على التجريب والصدق.
السينما اليونانية..
من الجذور إلى الحداثة
شهدت السينما اليونانية مسيرة متقلبة، اتسمت بالمدّ والجزر، حيث ظهرت كبادرة فنية متواضعة في أواخر القرن التاسع عشر، قبل أن تتبلور كصناعة ذات صوت مستقل في منتصف القرن العشرين.
البدايات كانت أشبه بمحاولات تسجيل مرئي لحياة المدن والمجتمع، إذ عُرض أول فيلم في أثينا عام 1896، لكن الإنتاج المحلي لم يبدأ إلا بعد ذلك بعدة سنوات، غالبا على شكل أفلام وثائقية أو تسجيلات مسرحية.
مع دخول الخمسينيات، بدأت ملامح "السينما اليونانية" تتبلور فعليا. كان هذا العصر الذهبي فترة ازدهار فني وثقافي، تم فيه إنتاج أعمال تجاوزت السوق المحلي ووجدت طريقها إلى المهرجانات العالمية. كان مايكل كاكويانيس أحد أبرز الأسماء، وحقق شهرة دولية بفيلمه الشهير "زوربا اليوناني" (1964)، الذي شكّل نقطة التقاء بين الهوية القومية اليونانية والدراما الإنسانية الكونية. اعتمد كاكويانيس على دراما قوية البناء، تمثيل كثيف بالعاطفة، وموسيقا شعبية شكّلت جزءا عضويا من السرد، حتى أصبح فيلمه مرجعا بصريا للهوية اليونانية. كذلك برزت ميلينا ميركوري، ليس فقط كممثلة بل كشخصية ثقافية وسياسية حملت السينما إلى الحقل العام. وقد تميزت تلك الحقبة بأفلام درامية، موسيقية، وأحيانا ميلودرامية ذات طابع شعبي، استخدمت الأغنية والحكاية للتواصل مع جمهور واسع.
في السبعينيات، ومع الانقلاب العسكري في 1967، دخلت السينما اليونانية مرحلة صدام مع الرقابة، وانكمشت إمكانيات الإنتاج، لكنها في المقابل ولّدت مسارا جديدا، اتخذ طابعا سياسيا وتأمليا أكثر. هنا ظهر اسم ثيو أنجيلوبولوس، الذي أصبح لاحقا أهم مخرج يوناني في التاريخ الحديث. أعمال أنجيلوبولوس لا تخضع للغة السرد التقليدية؛ فهي أشبه بقصائد بصرية طويلة تتعامل مع مفاهيم مثل الشتات، الحدود، الزمن، والهوية اليونانية بعد الحرب الأهلية.
اعتمد أنجيلوبولوس على لقطات طويلة، صامتة، مفعمة بالرمز، حيث تتعثر الحكاية تحت وطأة التأمل. من أبرز أعماله "الممثلون الجوالون" (1975)، وهو فيلم ملحمي يستعرض عقودا من التاريخ اليوناني من خلال فرقة مسرحية، و"منظر في الضباب" (1988)، الذي يروي رحلة طفلين في محاولة للوصول إلى أبٍ لا وجود له، وفيلم "نظرة أوليسيس" (1995) الذي اختار فيه شخصية مخرج يعود إلى البلقان في رحلة بحث عن نسخ سينمائية ضائعة، تتقاطع فيها السياسة مع السينما.
مع بداية الألفية الجديدة، ظهرت موجة جديدة أقل رومانسية وأكثر جرأة وتجريبا، عُرفت بـ"الموجة اليونانية الغريبة". هذه الحركة تميّزت بابتعادها عن العاطفة التقليدية، وتقديمها لأفلام تتعامل مع العائلة، السلطة، والعزلة بطريقة باردة وغرائبية.
ما يميز السينما اليونانية عموما، حتى عبر مراحلها المختلفة، هو هذا التداخل بين الجمالي والسياسي. ثقل التاريخ حاضر دائما: الاحتلال، الحرب الأهلية، الانقلاب، أزمة الديون. كلها تظهر، إما بصراحة أو كظل ثقيل خلف الحكاية. كما يتكرر عنصر المكان كجزء من البنية السردية؛ البحر، القرية، الشقة المغلقة، كل منها يتحول إلى حيز درامي. البطء جزء من إيقاعها، لا بوصفه ضعفا بل اختيارا وجوديا.
الشخصيات غالبا ما تكون ضائعة، صامتة، تترنح بين الرغبة والانكفاء.
السينما اليونانية ليست واسعة الإنتاج، لكنها عميقة الأثر. لم تسعَ لإنتاج نمط صناعي ضخم، بل راهنت على الفرادة، على صوت مختلف في شكل متقشف. هي سينما تُشاهَد بتأمل، وتُفكك بمزاج خاص، وهي اليوم أكثر من أي وقت مضى، تنتمي إلى خريطة السينما العالمية لا من باب التقليد، بل من باب الخصوصية.