العدالة الانتقالية في سوريا (1/3)*أ. د. ليث كمال نصراوين
الراي
تستعد سوريا للدخول في مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق، حيث تتجه أنظار دول العالم إلى هذه الدولة العربية الشقيقة التي عانى أهلها من ويلات نظام حكم جائر مستبد استمر لعقود من الزمن، تنكر خلالها لأبسط حقوق الإنسان المتمثلة بحق الفرد في الحياة وسلامة البدن. فالشعب السوري يتطلع اليوم إلى إعادة بناء دولته من جديد بمؤسساتها الحكومية والعسكرية، ونفض غبار الماضي عنه وعودة اللاجئين من شتى أنحاء العالم إلى وطنهم الأم لكي يسهموا في عملية البناء والتحديث.
فإلى جانب إصدار التشريعات الدستورية والقانونية المؤقتة التي ستحكم الفترة الزمنية القادمة، ستدخل سوريا في مرحلة هامة تسمى مرحلة العدالة الانتقالية، والتي يعرّفها القانون الدولي بأنها مجموعة الآليات والأساليب التي تستخدمها دولة ما لتحقيق العدالة في فترة انتقالية من تاريخها، وهذه الفترة غالبا ما تكون بعد انتهاء حرب أو اندلاع ثورة يترتب عليها نهاية حقبة من الحكم السلطوي القمعي.
فالعدالة الانتقالية ترتبط بمفهومين اثنين هما العدالة والانتقال، حيث تُعنى بالوسائل التي يتم من خلالها النقل من حالة نزاع داخلي مسلح إلى فترة سلم مجتمعي، أو من حكم سياسي تسلطي إلى نظام ديمقراطي. فهذه المراحل يجب أن يرافقها مجموعة من الإجراءات الإصلاحية التي تهدف إلى تحديد الأشخاص المسؤولين ومعاقبتهم وفق أحكام القانون، وجبر الضرر وتعويض ضحايا الانتهاكات الخطيرة.
وعليه، فإن العدالة الانتقالية تهدف إلى الاستجابة السريعة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي وقعت خلال حقبة زمنية استبدادية بقصد الاعتراف بما عاناه الضحايا من انتهاكات لحقوقهم وحرياتهم الأساسية، وذلك كشرط أساسي قبل البدء بتحقيق المصالحة الوطنية والسلم المجتمعي.
ولهذه الغاية، فإن العدالة الانتقالية تشمل مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي تقوم الدولة بتطبيقها بهدف معالجة تبعات الحقبة الزمنية الاستبدادية التي عاشتها لغايات طي صفحة الماضي والانتقال بالدولة إلى مرحلة جديدة من الحكم الديمقراطي.
فأولى عناصر العدالة الانتقالية هي الملاحقة القضائية للأشخاص الذين ارتكبوا جرائم غير إنسانية وإيقاع أقصى الجزاءات بحقهم، وثانيها هي جبر الضرر بحيث يجري الاعتراف بالأضرار التي لحقت الضحايا ومحاولة جبرها بوسائل مادية متعددة، تتمثل بدفع التعويضات المالية وتقديم الخدمات الصحية لهم لإعادة إدماجهم في المجتمع، بالإضافة إلى منحهم تعويضات معنوية تشمل الاعتذار العلني أو الاتفاق على يوم معين لإحياء ذكرى الضحايا.
كما تشمل العدالة الانتقالية عنصر إصلاح المؤسسات الوطنية وذلك من خلال إعادة هيكلة إدارات الدولة القمعية وفي مقدمتها القوات المسلحة والشرطة والمحاكم، بهدف تفكيك آلية الإنتهاكات البنيوية، وتفادي تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والإفلات من العقاب. وآخر عنصر من عناصر العدالة الانتقالية هو تشكيل لجان تحقيق هدفها الوقوف على أنماط الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان والتبليغ عنها والمساعدة على فهم الأسباب الكامنة وراء تلك المخالفات، مع تقديم التوصيات اللازمة لتعزيز منظومة حقوق الإنسان في المستقبل.
إن أهمية الإسراع في بدء مرحلة العدالة الانتقالية في سوريا تتمثل في النتائج الإيجابية التي تسعى إلى تحقيقها، وأهمها إعادة بناء الدولة بمؤسساتها الأمنية والقضائية وتعزيز الشعور بالعدالة وسيادة القانون وذلك خوفا من دخول المجتمع في دوامة من العنف والتنازع على السلطة. كما تنبع أهمية العدالة الانتقالية في سوريا من معرفة الحقيقة بالنسبة لضحايا الحكم التسلطي ومصير الآلاف من السجناء السوريين والعرب. فمن حق هؤلاء الأشخاص وذويهم أن يروا مرتكبي هذه الجرائم قد تمت معاقبتهم، وأن يحصلوا على التعويضات المادية والمعنوية لج?ر الضرر الذي لحق بهم وبأسرهم من بعدهم.
في المقابل، فإن تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا لن يكون بالأمر السهل؛ فالمجتمع المحلي قد عانى لسنوات طويلة من سياسة الإقصاء والإضعاف لمؤسساته وهيئاته الرسمية، كما أن حالة الصدمة الشعبية والخوف المجتمعي لا تزال قائمة رغم سقوط النظام، بالإضافة إلى انعدام ثقة المواطنين بقدرة مؤسسات الدولة التي أصبحت في مهب الريح، ناهيك عن التساؤلات المشروعة حول الهوية الوطنية للقوى السياسية التي قادت التغيير في سوريا وقدرتها على تحقيق حكم ديمقراطي والنهوض بالدولة من جديد.
إلا أن هذه الصعوبات يمكن التغلب عليها من خلال توفير إرادة سياسية حقيقية وإيمان مطلق بأهمية العدالة الانتقالية كمرحلة زمنية لإعادة انتاج دولة قوية متماسكة. كما يمكن لسوريا أن تستفيد من تجارب الدول العربية الأخرى في هذا السياق وأن تتجنب المشاكل التي وقعت بها. فالعدالة الانتقالية تقوم على أساس النظر إلى الأمام وليس إلى الخلف؛ فهدفها الأساسي ليس الانتقام ومعاقبة النظام السابق بقدر ما تكون غاياتها الوقوف على سلبيات الحقبة السوداء وتحديد الضحايا من أجل إعادة الاعتبار لهم.
هذا على خلاف الحال بالنسبة لدول أخرى التي كرست العدالة الانتقالية للانتقام من عناصر النظام السابق، فأصدرت تشريعات وطنية أقصت فئات واسعة من الشعب من نطاق العدالة الانتقالية، مثل قانون اجتثاث البعث في العراق وقانون العزل السياسي في مصر وليبيا.