عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    17-Dec-2024

فهم الثورة في سورية‏ .. حوار (2-1)

 الغد-‏ترجمة: علاء الدين أبو زينة

جوزيف ضاهر‏* - (ذا تمبيست) 10/12/2024   
 
 
‏أخذت الثورة في سورية العالم بالمفاجأة، وقامت بإسقاط ديكتاتورية عائلة الأسد التي حكمت سورية منذ تولي حافظ، والد بشار الأسد، السلطة في انقلاب قاده قبل 54 عامًا. ولم تتمكن القوات العسكرية للنظام ولا راعيه الإمبريالي، روسيا، وداعمه الإقليمي، إيران، من الدفاع عنه. وتم تحرير المدن الخاضعة لسيطرة النظام، وتحرير آلاف السجناء السياسيين من زنزاناته سيئة السمعة، وفُتحت مساحة لمعركة جديدة من أجل سورية حرة، شاملة وديمقراطية، لأول مرة منذ عقود.‏
 
 
‏وفي الوقت نفسه، يدرك معظم السوريين أن مثل هذا النضال يواجه تحديات هائلة، بدءًا من قوتي الثوار الرئيسيتين؛ "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا. وفي حين أن هؤلاء الناس قادوا النصر العسكري، إلا أنهم استبداديون، ولهم تاريخ من الطائفية الدينية والعرقية. وقد ادعى البعض في اليسار، من دون أساس، أن تمرد هذه القوى كان مدبرًا من الولايات المتحدة وإسرائيل. وأضفى آخرون طابعًا رومانسيًا على هذه القوات من الثوار باعتبار أنها تعيد إحياء الثورة الشعبية الأصلية التي كادت أن تطيح بنظام الأسد في العام 2011. لكن أيًا منها لا تجسد الديناميات المعقدة التي تتكشف في سورية اليوم. ‏
‏في هذه المقابلة التي أجريت وسط التغير السريع في سورية، تحاور مجلة "ذا تيمبست" The Tempest الناشط الاشتراكي السوري-‏‏السويسري جوزيف ضاهر، وتسأله ‏‏عن العملية التي أدت إلى سقوط حكم الأسد، والآفاق التي ربما تُفتح الآن للقوى التقدمية، والتحديات التي تواجهها في النضال من أجل بلد متحرر حقًا، يخدم مصالح كل شعبه بكل فئاته.‏
****
‏ذا تيمبست:‏‏ ‏‏كيف يشعر السوريون الآن، بعد سقوط النظام؟‏
‏جوزيف ضاهر:‏‏ السعادة لا تصدق. إنه يوم تاريخي. لقد ولت 54 عامًا من طغيان عائلة الأسد. وقد شاهدنا مقاطع الفيديو التي تعرض الاحتفالات الشعبية في جميع أنحاء البلاد، من دمشق وطرطوس وحمص إلى حماة وحلب والقامشلي والسويداء وغيرها من جميع المناطق والطوائف الدينية والأعراق، حيث تم تدمير تماثيل ورموز عائلة الأسد.‏
‏وبالطبع، هناك الفرحة الكبيرة لتحرير السجناء السياسيين من سجون النظام، وخاصة سجن صيدنايا، المعروف باسم "المسلخ البشري" الذي يُحتمل أنه يضم 10 آلاف إلى 20 ألف سجين. وكان بعضهم محتجزًا منذ الثمانينيات. كما تمكن الناس الذين نزحوا في العام 2016 -أو حتى قبل ذلك- من حلب ومدن أخرى، من العودة إلى منازلهم وأحيائهم، ورؤية عائلاتهم لأول مرة منذ سنوات.‏
‏في الوقت نفسه، في الأيام الأولى التي أعقبت نجاح الهجوم العسكري للثوار، كانت ردود الفعل الشعبية متباينة ومشوشة في البداية، بطريقة تعكس تنوع الرؤى السياسية في المجتمع السوري، داخل البلاد وخارجها. كانت بعض الشرائح سعيدة جدًا باحتلال هذه الأراضي وإضعاف النظام، والآن سقوطه.‏
‏لكنَّ بعض قطاعات السكان كانت -وما تزال- خائفة أيضًا من "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري". إنهم قلقون من الطبيعة الاستبدادية والرجعية لهذه القوى ومشروعها السياسي.‏
‏والبعض قلقون بشأن ما سيحدث في الوضع الجديد. وعلى وجه الخصوص، أصدرت قطاعات واسعة من الأكراد وغيرهم من السعداء بسقوط ديكتاتورية الأسد، إدانات للتهجير القسري الذي يمارسه "الجيش الوطني السوري" وعمليات الاغتيال التي تطال الناس.‏
 
‏ذا تيمبست:‏‏ ‏‏هل يمكنك أن تسرد لنا تسلسل الأحداث، خاصة تقدم الثوار، التي هزمت قوات الأسد العسكرية وأدت إلى سقوطه؟ ما الذي حدث؟‏
‏ضاهر: شنت "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا حملة عسكرية في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 ضد قوات النظام السوري، وحققتا انتصارات مذهلة. في أقل من أسبوع، سيطرت "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" على معظم محافظتي حلب وإدلب. ثم سقطت مدينة حماة الواقعة على بعد 210 كيلومترات إلى الشمال من دمشق، في أيدي "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" بعد مواجهات عسكرية عنيفة بينهما وبين قوات النظام المدعومة من سلاح الجو الروسي. وبعد حماة، سيطرت "هيئة تحرير الشام" على حمص.‏
‏في البداية أرسل النظام السوري تعزيزات إلى حماة وحمص، ثم قصف -بدعم من سلاح الجو الروسي- مدينتي إدلب وحلب ومحيطهما. وفي 1 و2 كانون الأول (ديسمبر)، شُنت أكثر من 50 غارة جوية على إدلب حيث تضررت أربعة مرافق صحية على الأقل، وأربعة مرافق مدرسية، ومخيمان للنازحين، ومحطة مياه. وأدت الغارات الجوية إلى نزوح أكثر من 48.000 شخص وعطلت بشدة تقديم الخدمات وتسليم المساعدات. وكان الديكتاتور بشار الأسد قد وعد بإلحاق الهزيمة بأعدائه، وصرح بأن "الإرهاب لا يفهم إلا خطاب القوة". لكن نظامه كان ينهار مُسبقًا من كل مكان.‏
‏وبينما كان النظام يخسر مدينة تلو الأخرى، قامت محافظتا السويداء ودرعا الجنوبيتان بتحرير نفسيهما؛ وتولت السيطرة فيهما قوات المعارضة المسلحة الشعبية والمحلية، المنفصلة والمتميزة عن "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري". ثم انسحبت قوات النظام من بلدات تبعد نحو عشرة كيلومترات عن دمشق، وتخلت عن مواقعها في محافظة القنيطرة المتاخمة لهضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل.‏
‏ومع اقتراب فصائل مسلحة مختلفة من المعارضة -ليس "هيئة تحرير الشام" أو "الجيش الوطني السوري"- من العاصمة دمشق، انهارت قوات النظام وانسحبت، في حين تضاعفت التجمعات الشعبية وإحراق جميع رموز بشار الأسد ونظامه في مختلف ضواحي دمشق. وفي ليلة 7 على 8 كانون الأول (ديسمبر)، تم الإعلان عن تحرير دمشق. ولم يكن مصير بشار الأسد ومكانه معروفَين في البداية، لكنّ بعض المعلومات أشارت إلى أنه موجود في روسيا تحت حماية موسكو.‏
‏أظهر سقوط النظام هشاشته الهيكلية، عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، وانهار مثل بيت من ورق. وليس هذا مفاجئًا لأنه بدا واضحًا أن الجنود لن يقاتلوا في صفوف نظام الأسد، بالنظر إلى رواتبهم القليلة وظروفهم الهشة. وقد فضلوا الفرار أو عدم القتال بدلاً من الدفاع عن نظام بالكاد يتعاطفون معه، خاصة وأن الكثيرين منهم مجنّدون قسرًا.‏
‏إلى جانب هذه الديناميات في الجنوب، عملت ديناميات أخرى في أجزاء مختلفة من البلاد منذ بدء هجوم الثوار. أولاً، قاد "الجيش الوطني السوري" هجمات على الأراضي التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية" بقيادة الأكراد في شمال حلب، ثم أعلن عن بدء هجوم جديد على مدينة منبج الشمالية، التي تخضع لسيطرة "قوات سورية الديمقراطية". وفي يوم الأحد 8 كانون الأول (ديسمبر)، وبدعم من الجيش والقوات الجوية والمدفعية التركية، دخل "الجيش الوطني السوري" المدينة.‏
‏ثانيًا، استولت "قوات سورية الديمقراطية" على معظم محافظة دير الزور التي كانت تسيطر عليها قوات النظام السوري والميليشيات الموالية لإيران، بعد أن انسحبت هذه القوات لإعادة الانتشار في مناطق أخرى والقتال ضد "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري". ثم وسعت "قوات سورية الديمقراطية" سيطرتها على مساحات شاسعة من الشمال الشرقي كانت في السابق تحت سيطرة النظام.‏
 
ذا تيمبست: ‏‏من هي قوات الثوار، وخاصة تشكيل الثوار الرئيسي المكون من "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري"؟ ما هي سياساتهم وبرنامجهم ومشروعهم؟ ما هو الرأي الذي تحمله الطبقات الشعبية عنهم؟‏
‏ضاهر: يعكس الاستيلاء الناجح على حلب وحماة وحمص ومناطق أخرى في حملة عسكرية قادتها "هيئة تحرير الشام" من نواح كثيرة تطور هذه الحركة وتحولها على مدى سنوات عدة إلى تنظيم أكثر انضباطًا وتنظيمًا، سياسيًا وعسكريًا. يمكنها الآن إنتاج طائرات من دون طيار وهي تدير أكاديمية عسكرية. وقد تمكنت "هيئة تحرير الشام" من فرض هيمنتها على عدد من الجماعات العسكرية، من خلال القمع والإدماج، في السنوات القليلة الماضية. وبناء على هذه التطورات، وضعت "الهيئة" نفسها في موقف مناسب لشن هذا الهجوم.‏
‏كانت الهيئة قد أصبحت لاعبًا شبه حكومي في المناطق التي تسيطر عليها، حيث أنشأت حكومة، "حكومة الإنقاذ السورية"، التي عملت كإدارة مدنية لـ"هيئة تحرير الشام" وتولت مهمة تقديم الخدمات. وكانت هناك رغبة واضحة لدى "هيئة تحرير الشام" بحكومتها، "حكومة الإنقاذ السورية" في السنوات القليلة الماضية لتقديم نفسها للقوى الإقليمية والدولية كقوة عقلانية، من أجل تطبيع حكمها. وأدى ذلك بشكل خاص إلى توفير مساحة متزايدة لبعض المنظمات غير الحكومية لكي تعمل في قطاعات رئيسية في مناطق "الهيئة"، مثل التعليم والرعاية الصحية، حيث تفتقر "حكومة الإنقاذ السورية" إلى الموارد المالية والخبرات.‏
‏ولا يعني هذا أنه المناطق الخاضعة لحكمها خالية من الفساد. لقد فرضت "الهيئة" حكمها من خلال الإجراءات الاستبدادية والرقابة الشرطية. وقمعت "هيئة تحرير الشام" -أو حدت بشكل ملحوظ من- الأنشطة التي تعتبرها مخالفة لأيديولوجيتها. على سبيل المثال، أوقفت "هيئة تحرير الشام" العديد من المشاريع الداعمة للنساء، وخاصة بين سكان المخيمات، تحت ذريعة أن هذه المشاريع تزرع أفكارًا عن المساواة بين الجنسين معادية لنهج حكمها. واستهدفت "الهيئة" واحتجزت المعارضين السياسيين، والصحفيين، والنشطاء والأشخاص الذين اعتبرتهم منتقدين أو خصومًا.‏
‏كما تحاول "هيئة تحرير الشام" -التي ما تزال تُعد منظمة إرهابية لدى العديد من القوى، بمن فيها الولايات المتحدة- إظهار صورة أكثر اعتدالاً عن نفسها، في محاولة لكسب الاعتراف بأنها أصبحت الآن جهة فاعلة عقلانية ومسؤولة. وتعود بدايات هذا التطور وراءً إلى قطع "الهيئة" علاقاتها مع تنظيم القاعدة في العام 2016 وإعادة صياغة أهدافها السياسية في الإطار الوطني السوري. كما عمدت أيضًا إلى قمع الأفراد والجماعات المرتبطين بتنظيمي القاعدة وما يسمى بـ"الدولة الإسلامية" (داعش).‏
‏في شباط (فبراير) 2021، في أول مقابلة له مع ‏‏صحفي أميركي‏‏، أعلن زعيم "الهيئة"، أبو محمد الجولاني، أو أحمد الشرع (اسمه الحقيقي)، أن المنطقة التي يسيطر عليها "لا تمثل تهديدًا لأمن أوروبا وأميركا"، مؤكدًا أن المناطق الخاضعة لحكمه لن تصبح قاعدة للعمليات في الخارج.‏
وفي هذه المحاولة لتعريف نفسه كمحاور شرعي على الساحة الدولية، شدد على دور مجموعته في مكافحة الإرهاب. وكجزء من التحول المفترض، سمحت "هيئة تحرير الشام" بعودة المسيحيين والدروز في بعض المناطق، وأجرت اتصالات مع بعض قادة هذه المجتمعات.‏
‏بعد الاستيلاء على حلب، واصلت "هيئة تحرير الشام" تقديم نفسها كجهة فاعلة مسؤولة. على سبيل المثال، نشر مقاتلوها على الفور مقاطع فيديو لهم وهم يقفون أمام المصارف، للتأكيد على أنهم يريدون حماية الممتلكات والأصول الخاصة. كما وعدوا بحماية المدنيين والأقليات الدينية، وخاصة المسيحيين، لأنهم يعرفون أن وضع هذه الطائفة يخضع للمتابعة الدقيقة في الخارج.‏
‏وبالمثل، أصدرت "هيئة تحرير الشام" العديد من التصريحات التي وعدت بتقديم حماية مماثلة للأكراد والأقليات الإسلامية الأخرى، مثل الإسماعيليين والدروز. كما أصدرت بيانًا بشأن العلويين دعتهم فيه إلى النأي بأنفسهم عن النظام، من دون الإيحاء بأن "هيئة تحرير الشام" ستحميهم أو الإدلاء بأي شيء واضح عن مستقبلهم. وفي بيانها المعنيّ وصفت "هيئة تحرير الشام" الطائفة العلوية بأنها أداة للنظام ضد الشعب السوري.‏
‏وأخيرًا، صرح زعيم "هيئة تحرير الشام"، أبو محمد الجولاني، بأن مدينة حلب ستديرها سلطة محلية، وأن جميع القوات العسكرية، بما فيها قوات "هيئة تحرير الشام"، ستنسحب بالكامل من المدينة في الأسابيع المقبلة. ويظهر من كل هذا أن الجولاني يريد الانخراط بنشاط مع القوى المحلية والإقليمية والدولية.‏
‏مع ذلك، ما يزال السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانت "هيئة تحرير الشام" ستلتزم بمتابعة ما تقوله في هذه التصريحات. كان التنظيم منظمة استبدادية ورجعية ذات أيديولوجية أصولية إسلامية، وما يزال لديه مقاتلون أجانب في صفوفه. وقد شهدت إدلب العديد من المظاهرات الشعبية في السنوات القليلة الماضية ضد حكمه وانتهاكاته للحريات السياسية وحقوق الإنسان، بما في ذلك اغتيال وتعذيب المعارضين.‏
‏بالتأكيد لا يكفي مجرد التسامح مع الأقليات الدينية أو العرقية أو السماح لها بالصلاة. القضية الرئيسية هي الاعتراف بحقوق أفرادها كمواطنين متساوين يشاركون في تقرير مستقبل البلاد. وبشكل عام،‏‏ فإن تصريحات‏‏ رئيس "هيئة تحرير الشام"، الجولاني، من نوع "الأشخاص الذين يخشون الحكم الإسلامي إما أنهم رأوا تطبيقات غير صحيحة له أو أنهم لم يفهموه بشكل صحيح"، ليست مطمئنة بالتأكيد، بل العكس تمامًا.‏
‏أما "الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا، فتحالف مكوّن من جماعات مسلحة تتبنى في الغالب سياسات إسلامية محافظة. وهو يتميز بسمعة سيئة للغاية ومذنب بارتكاب العديد من انتهاكات حقوق الإنسان، خاصة ضد السكان الأكراد في المناطق الخاضعة لسيطرته. وقد شاركت جماعاته بشكل خاص في الحملة العسكرية التي قادتها تركيا لاحتلال عفرين في العام 2018، والتي أدت إلى التهجير القسري لحوالي 150.000 مدني، غالبيتهم العظمى من الأكراد.‏
‏في الحملة العسكرية الحالية، يخدم "الجيش الوطني السوري" مرة أخرى أهدافًا تركية بشكل أساسي من خلال استهداف المناطق التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية" التي يقودها الأكراد، والتي تضم عددًا كبيرًا من السكان الأكراد. وعلى سبيل المثال، استولى "الجيش الوطني السوري" على مدينة تل رفعت ومنطقة الشهباء في شمال حلب، التي كانت في السابق تحت سيطرة "قوات سورية الديمقراطية"، مما أدى إلى التهجير القسري لأكثر ‏‏من 150.000‏‏ مدني وارتكاب العديد من انتهاكات حقوق الإنسان ضد الأكراد، بما فيها عمليات الاغتيال والخطف. ثم أعلن "الجيش الوطني السوري" عن شن هجوم عسكري، بدعم من الجيش التركي، على مدينة منبج التي يقطنها نحو 100.000 مدني وتسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية".‏
‏وإذن، هناك اختلافات بين "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري". تتمتع "هيئة تحرير الشام" باستقلالية نسبية عن تركيا، على النقيض من "الجيش الوطني السوري" الذي تسيطر عليه تركيا ويخدم مصالحها. ومن المؤكد أن القوتين مختلفتان، تسعيان إلى تحقيق أهداف مختلفة، وهناك صراعات بينهما، حتى مع إبقاء خلافاتهما طي الكتمان في الوقت الحالي. على سبيل المثال، لا تسعى "هيئة تحرير الشام" حاليًا إلى مواجهة "قوات سورية الديمقراطية". وبالإضافة إلى ذلك، نشر "الجيش الوطني السوري" بيانًا انتقاديًا ضد "هيئة تحرير الشام" بسبب "سلوكها العدواني" ضد أعضاء "الجيش الوطني السوري"، في حين ورد أن "هيئة تحرير الشام" ألقت باللوم على مقاتلي "الجيش الوطني السوري" في عمليات النهب التي تشهدها سورية حاليًا.‏
 
‏ذا تيمبست:‏‏ ‏‏بالنسبة للكثيرين الذين لم يكونوا يولون اهتمامًا لسورية، جاء هذا الحدَث فجأة وكأنه خرج من العدم. ما هي جذور هذا الوضع في الثورة السورية، والثورة المضادة والحرب الأهلية؟ ما الذي حدث في البلد خلال الفترة الأخيرة وأدى إلى إطلاق الهجوم العسكري؟ ما هي الديناميات الإقليمية والدولية التي مهدت الأرض لتقدم المتمردين؟‏
‏ضاهر:‏‏ في البداية، أطلقت "هيئة تحرير الشام" الحملة العسكرية كرد فعل على تصاعد الهجمات وحملات القصف التي شنها نظام الأسد وروسيا على مناطقها في الشمال الغربي. كما كان يهدف إلى استعادة المناطق التي احتلها النظام في انتهاك لمناطق خفض التصعيد التي تم تحديدها في اتفاق آذار (مارس) 2020 الذي تفاوضت عليه موسكو وطهران. ومع ذلك، مع نجاحها المفاجئ، وسعت "الهيئة" طموحاتها ودعت علنًا إلى الإطاحة بالنظام، وهو ما أنجزته هي وآخرون الآن.‏
‏حققت "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" النجاح الكبير بهذا القدر بسبب الإضعاف الذي تعرض له الحلفاء الرئيسيون للنظام. فقد حولت روسيا؛ الراعي الدولي الرئيسي للأسد، قواتها ومواردها إلى حربها الإمبريالية على أوكرانيا. ونتيجة لذلك، كان مشاركتها في سورية محدودة بشكل ملحوظ مقارنة بالعمليات العسكرية المماثلة في السنوات السابقة.‏
‏كما أضعفت إسرائيل حليفي النظام الرئيسيين الآخرين، "حزب الله" اللبناني وإيران، بشكل كبير منذ أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. فقد نفذت تل أبيب عمليات اغتيال لقيادة "حزب الله"، بمن فيها حسن نصر الله، وأهلكت كوادره بهجمات أجهزة الاستدعاء (البيجرات)، وقصفت قواته في لبنان. ومن المؤكد أن "حزب الله" يواجه الآن أكبر تحدٍّ منذ تأسيسه. كما وجهت إسرائيل سلسلة من الضربات ضد إيران، وكشفت نقاط ضعفها، وصعّدت من وتيرة قصفها للمواقع الإيرانية ومواقع "حزب الله" في سورية في الأشهر القليلة الماضية.‏
‏مع انشغال داعميها الرئيسيين في شؤونهم الخاصة وإضعافهم، كانت ديكتاتورية الأسد في وضع ضعيف. وبسبب كل نقاط ضعفها الهيكلية، ونقص الدعم من السكان الذين تحكمهم، وعدم موثوقية قواتها، ومن دون دعم دولي وإقليمي، تبيّن أنها غير قادرة على الصمود أمام تقدم قوات الثوار، وانهارت بسرعة سيطرتها في المدينة تلو الأخرى كما يتداعى بيت من ورق.‏
 
‏ذا تيمبست:‏‏ كيف كان رد حلفاء النظام في البداية؟ وما هي مصالحهم في سورية؟‏
‏ضاهر:‏‏ تعهدت كل من روسيا وإيران في البداية بدعم النظام وضغطتا عليه أيضًا لمحاربة "هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري". وفي الأيام الأولى من الهجوم، دعت روسيا النظام السوري إلى لم شتات نفسه والتماسك و"فرض النظام في حلب"، وهو ما يشير على ما يبدو إلى أنها كانت تأمل أن تقوم قوات دمشق بشن هجوم مضاد.‏
‏ومن جهتها، دعت إيران إلى "التنسيق" مع موسكو في مواجهة هذا الهجوم. وزعمت أن الولايات المتحدة وإسرائيل تقفان وراء هجوم المتمردين على النظام السوري في محاولة لزعزعة استقراره وتحويل الانتباه عن الحرب الإسرائيلية في فلسطين ولبنان. وأعلن المسؤولون الإيرانيون دعمهم الكامل للنظام السوري، وأكدوا نيتهم الإبقاء على وجود "مستشاريهم العسكريين" في سورية، بل وحتى زيادتهم لدعم جيشه. كما وعدت طهران بتزويد النظام السوري بالصواريخ والطائرات المسيرة -وحتى بنشر قواتها نفسها.‏
‏لكن من الواضح أن هذا لم ينجح. وعلى الرغم من القصف الروسي للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فإن هذا الجهد لم يردع تقدم الثوار.‏
‏لدى كلتا القوتين الكثير لتخسراه في سورية. بالنسبة لإيران، كانت سورية ضرورية لنقل الأسلحة إلى "حزب الله" والتنسيق اللوجستي معه. وفي الواقع، ترددت إشاعات قببل سقوط النظام عن أن الحزب اللبناني أرسل عددًا صغيرًا من "القوات الرقابية" إلى حمص لمساعدة قوات النظام العسكرية و2.000 جندي إلى مدينة القصير، أحد معاقله في سورية بالقرب من الحدود مع لبنان، للدفاع عنها في حال تعرضت لهجوم من الثوار. وبينما اتضح باطراد أن النظام يسقط، قام الحزب بسحب قواته.‏
‏من جانبها، شكلت قاعدة حميميم الجوية الروسية في محافظة اللاذقية السورية، والمنشأة الروسية البحرية في طرطوس على الساحل، مواقع مهمة لروسيا تتيح لها تأكيد نفوذها الجيوسياسي في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط وأفريقيا. وسيكون من شأن فقدان هذه القواعد أن يقوض مكانة روسيا ومنجزها، حيث استخدمت تدخلها في سورية كمثال على كيفية استخدام القوة العسكرية لتشكيل الأحداث والتنافس مع الدول الغربية خارج حدودها. (يُتبع)‏
 
‏*جوزيف ضاهر Joseph Daher: ناشط وباحث يساري سويسري سوري. وهو أستاذ زائر في جامعة لوزان وأستاذ مساعد ما بعد الدكتوراه في كلية العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة غنت. أهلته خبرته في سورية ولبنان والشرق الأوسط لكتابة العديد من المقالات للمجلات الأكاديمية، وكذلك لمراكز بحثية مختلفة ومواقع أكاديمية باللغات الإنجليزية والفرنسية والعربية. نشر كتابين رئيسيين: 1) في تشرين الأول (أكتوبر) 2016 - "حزب الله": الاقتصاد السياسي لـ"حزب الله" في لبنان" Hezbollah: The Political Economy of Lebanon's Party of God؛ و، 2) في حزيران (يونيو) 2019 -"سورية بعد الانتفاضات، الاقتصاد السياسي لقدرة الدولة على الصمود" Syria after the uprisings, The Political Economy of State Resilience. بشكل عام، يعتمد إطاره النظري الأساسي على تحليل الاقتصاد السياسي في سورية ولبنان والشرق الأوسط الأوسع.
*نشر هذا الحوار تحت عنوان: Understanding the Rebellion in Syria