عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Dec-2025

أساليب التربية.. كيف تحدد مسار الطفل المستقبلي المهني والاجتماعي؟

 الغد-عزيزة علي

تعد أساليب التنشئة الأسرية اللبنة الأولى في بناء صرح الشخصية؛ ولها تأثيرها على تكوين شخصية الطفل وتقدير ذاته ومساره المستقبلي المهني والاجتماعي. هذا ما نوقش في المحاضرة التي قدمها أستاذ علم الاجتماع والسياسات الاجتماعية الدكتور مجد الدين خمش، التي أقيمت أول من أمس في منتدى الرواد الكبار.
 
 
"طرق التربية الأسرية والتنمية في المجتمع" عنوان المحاضرة التي أدارتها القاصة مرام رحمون، ونظمتها اللجنة الثقافية في المنتدى. 
ركزت المحاضرة على الفروق بين الأساليب الديمقراطية المرنة والأساليب التسلطية القاسية، وأثر العوامل الاجتماعية والاقتصادية في انتشارها، مستعينة بأمثلة من الأدب العربي والعالمي لتوضيح تأثير التربية على نمو الطفل ومساهمته المستقبلية في المجتمع.
قال د. مجد الدين خمش "إن أساليب التربية الأسرية تتخذ شكلين رئيسين: الديمقراطية المرنة والتسلطية القاسية. وتشمل الأساليب الديمقراطية المرنة سلوكيات مثل: التشجيع والمديح، الحوار الودي، الاستماع إلى حاجات الطفل ورغباته، استخدام كلمات الحب والافتخار، تشجيع المشاركة في القرارات الأسرية، تعويد الطفل على الاستقلالية والاعتماد على الذات، اعتماد المرونة في الأدوار الاجتماعية بين الأولاد والبنات، ووضع قواعد وضوابط للسلوك وشرحها بأسلوب ودّي ومتفهم.
أما الأساليب التسلطية القاسية فتتضمن: التأنيب الشديد، العقاب الجسدي، عدم احترام الطفل وذاتيته، التقليل من شأنه، فرض حدود صارمة للأدوار الاجتماعية بين الأولاد والبنات، وعدم إتاحة الفرصة للطفل للتعبير عن رأيه أو موقفه. وغالبًا ما يكون الأسلوب المتبع في الأسر مزيجًا من الشكلين الديمقراطي والتسلطي، وهو الأكثر انتشارًا في المجتمع".
وأضاف خمش، تؤثر العوامل الاجتماعية والاقتصادية، مثل دخل الأسرة، والسكن، وعدد الأطفال، على أساليب التربية التي يتبعها الوالدان. فغالبًا ما تنتشر الأساليب المرنة في أسر الطبقات العليا والوسطى العليا، بينما تكثر الأساليب القاسية في الطبقة الوسطى الدنيا والطبقة الشعبية. ومع ذلك، يكون الأسلوب المتبع في معظم الأسر مزيجًا من النمطين الديمقراطي والسلطوي.
وتترك أساليب التربية آثارًا عميقة على شخصية الطفل، برمجته العقلية، ومساره المهني المستقبلي، إذ تؤثر في نشوء مفهوم الذات وتكوّن تقدير الذات لديه. ويُدمج هذان المفهومان أحيانًا في مصطلح واحد هو "الذات" أو "الأنا" (Ego)، ويُعدّان من المفاهيم الأساسية لفهم العلاقة بين أساليب التربية الأسرية وشخصية الطفل، وكذلك ارتباط هذه الشخصية بالتنمية الاقتصادية، سواء إيجابًا أو سلبيًا. 
ويبين خمش بأن مفهوم الذات الواضح والصحي والإيجابي، إلى جانب ارتفاع تقدير الذات، يشكلان ما يُعرف بـ"الشخصية الإنجازية"، وهي نمط من الشخصيات التي يتميز أصحابها بحب العمل والتجديد، والسعي لتحقيق التميز في مختلف المجالات، ولا سيما المهنية. كما يتسم هؤلاء بعدد من الخصائص المستمدة من الثقافة الفرعية للطبقتين العليا والوسطى العليا، وهي خصائص مرتبطة بالنجاح الاقتصادي وتساهم في تنمية المجتمع.
ويشير إلى أن هشام شرابي، أكد أن أساليب التربية السائدة في الأسرة العربية، مثل التأنيب، التقليل من الأهمية، العقاب الجسدي، والتلقين دون نقاش، تؤدي إلى انتشار سلوكيات الخجل، الاتكالية، الخنوع، التهرب من المسؤولية وضعف الإنجاز على مستوى المجتمع. ويساهم ذلك في ترسيخ قيم الاستبداد ودعم العقلية الذكورية، مما يعيق مسارات التغيير والتقدم. ويرى شرابي أن تحقيق التقدم يتطلب تضافر الجهود لإضعاف العقلية الذكورية وما يرتبط بها من أنماط الهيمنة الفكرية، والعمل على تحقيق المساواة وتكافؤ الفرص.
وفي الأدب، تقدم رواية عماد رشاد عثمان "أبي الذي أكره"، إدانة صريحة لأساليب التربية الذكورية الاستبدادية، من خلال سرديات تسعة من الناضجين الذين يستذكرون طفولتهم ويأسون للظلم الذي تعرضوا له. والكاتب، طبيب ومعالج نفسي ويهوى الأدب، أصدر أيضًا رواية "أحببت وغدًا" (2018) التي تناولت التعافي من العلاقات العاطفية الفاشلة، مسلطًا الضوء على آثار التربية والعلاقات على الصحة النفسية.
ويسرد الكاتب كيف أثقلت أساليب الأب القاسية حياة شخصيات الرواية التسع، مخلفة جراحًا نفسية تعرقل تقدمهم. كما يعرض الراوي تشوه مفهوم الذات لديهم، معتبرًا إياه مرضًا يجب معالجته، وهو ما دفع هؤلاء الأفراد إلى اللجوء إلى أساليب التحليل النفسي المعرفي السلوكي لتخليص ذواتهم من الجراح المتراكمة.
ويسعى الأبطال إلى الشفاء من خلال علاقاتهم الودية العميقة وتبنّي مفاهيم جديدة عن أنفسهم، أبرزها: "نحن جيدون وطيبون، ونستحق الحب والتقدير الذي حُرمنا منه في طفولتنا". فالذات، كونها نتاج علاقات اجتماعية وتفاعلات متراكمة، يمكن إعادة تشكيلها عبر علاقات وتفاعلات جديدة، وإن كان ذلك ببطء. ويمارسون البوح الجماعي، واسترجاع الذكريات، والمونولوج الداخلي، والتحرر الثقافي برفض المفاهيم الذكورية التقليدية، ليكتسبوا مفاهيم ومشاعر إيجابية جديدة عن أنفسهم وزملائهم في المجموعة العلاجية التي شكّلوها.
وكان نجيب محفوظ، في ثلاثيته الشهيرة ("بين القصرين"، "قصر الشوق"، و"السكرية")، قد تتبع التحولات الاجتماعية والسياسية في مصر بين العامين 1919 و1957، من خلال تصويره أسرة مصرية تقليدية في حي الجمالية الشعبي بالقاهرة، موضحًا سلوكيات الاستبداد الأبوي التي يمارسها السيد أحمد عبد الجواد (سي السيد)، وما تسببه من خضوع وخنوع لدى الزوجة والأبناء الشباب. أما في الشعر، فقد تناول أحمد شوقي جانبًا من القيم والتربوية والأخلاقية في الأسرة، مسلطًا الضوء على أهمية التنشئة السليمة.
وبسبب السلبيات العديدة التي قد تشوب أساليب التربية الأسرية وتداعياتها السلبية على التنمية الاقتصادية في المجتمع، تلجأ الحكومات إلى ابتكار وتطوير سياسات وبرامج اجتماعية تهدف إلى رفع نوعية التربية الأسرية وأساليب التعامل مع الأطفال والشباب، والاهتمام بصحة الأمهات والأطفال منذ الصغر، ودعم الأسر منخفضة الدخل، وحماية الأسر والأطفال من العنف والتنمر.
ومن هذا المنطلق، أقدّم منهاجًا مؤقلمًا للتربية الإيجابية يمكن تطبيقه عربيًا، يشمل المبادئ والسلوكيات التي تساهم في نشوء وتطوير مفهوم سويّ للذات لدى الطفل، وتعزز تقدير الذات الإيجابي، وتزيد فرص مساهمة الطفل لاحقًا في تنمية المجتمع.
وأشار إلى أن مبادئ التربية الإيجابية هي: "سلوكيات الوالدين التي تجعل الطفل يشعر بذاتيته وأهميته، الاحترام والتقدير للطفل، التشجيع والمديح، المشاركة وإبداء الرأي، ضبط المصروف اليومي للطفل، تعليم مفهوم المال والمحافظة عليه، تدريب الطفل على المهارات الاجتماعية والحياتية، عقد اجتماعات أسرية دورية يشارك فيها الطفل".
وخلص، إلى أن نماذج عالمية للتربية الإيجابية، كمنهج تربوي قدمه في الأصل عالم النفس الألماني الأميركي ألفين أدلر وتلميذه رودولف دريكرز، ثم تبنته الروائية الأميركية المتخصصة في أدب الأطفال جاين نيلسن، التي لها  مؤلفات عدة، في مجالات تربية الأطفال، تطوير الذات والتنمية البشرية.