عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    01-Mar-2025

الحاضنة الشعبية محاولة فهم*إسماعيل الشريف

 الدستور

«واحد للجميع والجميع لواحد» – ألكسندر دوما، من رواية الفرسان الثلاثة.
 
في مخيم جنين، أغلقت سيدة مسنّة الباب أمام شاب يحاول تجاوزها، أمسكته بتلابيبه بكل ما أوتيت من قوة، وصرخت: «جاسوس... جاسوس!» هرع أبناء الحي، أمسكوه، حققوا معه، وحين تأكدوا من صحة اتهام السيدة، ساقوه إلى الشارع، حيث أُعدم أمام الناس. التي أمسكته كانت أمّه، والذي أعدمه كان شقيقه.
 
هل تصدّق هذه القصة؟
 
من أهم الكتب التي تناولت الاستعمار وحركات التحرر الوطني كتاب «المعذبون في الأرض» للمفكر فرانز فانون، الذي أصبح مرجعًا أساسيًا في الفكر التحرري، تمامًا كما يُعتبر «الأمير» لميكافيلي مرجعًا للواقعية السياسية، وكتاب «فن الصفقة» لترامب دليلًا للرأسمالية الأمريكية القائمة على عقد الصفقات بمعزل عن الأخلاق.
 
صدر «المعذبون في الأرض» عام 1961، قبل شهرين فقط من وفاة مؤلفه، وهو كتاب يستند بالأساس إلى الثورة الجزائرية التي عايشها فانون حين كان طبيبًا نفسيًا فيها. لكنه لا يوثّق الثورة الجزائرية فحسب، بل يغوص في تحليل عميق لمفهوم التحرر من الاستعمار وتأثيراته النفسية والاجتماعية والسياسية. يؤمن فانون بأن العنف الثوري ضرورة حتمية للتحرر، ويدرس كيف يؤدي القمع الاستعماري إلى انفجار الثورة. لا يزال الكتاب حتى اليوم مرجعًا أكاديميًا وفكريًا في نضالات الشعوب ضد الأنظمة القمعية.
 
يرى فانون أن التحرر ليس مشروعًا فرديًا، بل هو قضية جماعية، لأن الاستعمار يقمع الجميع بنفس الدرجة، مما يستدعي مقاومة شاملة لا فردية. الشعوب المستعمَرة تُجبر على العيش وفق قواعد قاسية للبقاء، حيث يصبح اتخاذ قرارات صعبة ضرورة لا اختيارًا، بما في ذلك التخلص ممن يهدد الجماعة لأنه فضّل نفسه على المجموع. فلسفته في مقاومة الاستعمار تقوم على التضامن المطلق، حيث تذوب الفردية في الجماعة، ويصبح النضال الجماعي السبيل الوحيد لمواجهة العدو الذي يستهدف الجميع دون تمييز.
 
أما في السيرة النضالية «الوردة والقرنفلة»، التي خطّها الشهيد يحيى السنوار، فقدّم نموذجًا فريدًا في المقاومة داخل السجون، حيث وثّق تجربة الإضراب عن الطعام التي قد تنضم يومًا إلى كتب فانون كمرجع في مقارعة الطغيان بالسلاح الوحيد المتاح للأسير: الجوع والصبر.
 
يشرح السنوار آليات التخطيط السري للإضراب، حيث يبدأ الأسرى بسرقة ورقة وقلم من أحد السجّانين أو مكاتب التحقيق، أو يستخدمون أوراق الصحف وقطعًا صغيرة من الرصاص للكتابة. يتم لفّ الورقة بنايلون وإخفاؤها داخل الفم، ثم يتم تمريرها بسرّية بين الأسرى من فم إلى يد، ومن يد إلى فم، وأحيانا من فم إلى فم، حتى تصل إلى جميع الزنزانات، وبهذا تُنقل التعليمات دون أن تترك أثرًا ماديًا يمكن كشفه.
 
في نظر السنوار، الإضراب عن الطعام ليس احتجاجًا، بل معركة كسر إرادة، حيث يدخل السجين في مواجهة مباشرة مع السجّان، ليس بسلاح ناري، بل بسلاح الصبر والجوع والتصميم. يمارس السجّانون أشدّ أنواع التعذيب لكسر الإضراب، لكن لا يمكن إنهاؤه إلا بموافقة قيادة الأسرى التي تتفاوض مع الاحتلال. في النهاية، تُكسر شوكة السجّان، ويُجبر على الرضوخ لمطالب الأسرى، لأن هذه ليست مجرد مقاومة فردية، بل نضال جماعي يفرض نفسه على المعتدي.
 
وهذا هو مفهوم الحاضنة الشعبية، حين يتحول كل الشعب إلى مقاوم، بالسلاح أو بالدعم المادي والمعنوي، وحين تصبح المقاومة ليست مجرد خيار، بل أسلوب حياة للبقاء تحت وطأة الاحتلال. ولهذا، فإن الإبادة الجماعية التي نشهدها اليوم لم تفرّق بين المرأة والطفل والمقاتل، لأن الاحتلال والإدارة الأمريكية، بقيادة ترامب ومن خلفه اللوبي الصهيوني، يدركون أن القضاء على المقاومة يستوجب تفكيك الحاضنة الشعبية التي تمدّها بالقوة.
 
من هنا، جاءت محاولات التهجير القسري لأهلنا في غزة، ليس فقط لتفريغ الأرض، بل لإبادة الفكرة ذاتها. لكنهم لم يدركوا بعد أن الأوطان لا تُمحى بالقوة، وأن ذاكرة الشعوب أقوى من كل أدوات الحرب. فكما خاض الشعب الجزائري معركته حتى نال حريته، وكما صمد الأسرى في سجون الاحتلال، فإن غزة، التي تقاتل بكل شبر فيها، ستظل حصن المقاومة، وقلعة الصمود، ومرآة نضال الأمة.