عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    16-Mar-2025

كل سمات السقوط التراجيدي..!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

يألف المشتغلون بالأدب والفلسفة الكلاسيكيين مفهوم «السقطة التراجيدية». ومع أن المفهوم ينطوي على عنصر من الوعظ الأخلاقي والتأثير التطهيري، فإنه يظل صالحا لتفسير الكثير من التحولات في أقدار الأفراد –والأمم والإمبراطوريات. والفكرة هي أن مزيجا من العيوب الشخصية، والقدر، والظروف الخارجية تتضافر لإسقاط الشخصية، أو القائد، أو الكيان. وغالبا ما يكون هذا السقوط دراميا لا رجعة فيه. والعيب القاتل في الشخصية قد يكون الكبر، الطموح المفرط، العناد المتعنت، أو الضعف الأخلاقي المؤذي.
 
 
في الأدب، ثمة سقوط أوديب وماكبث. وفي الميثولوجيا، ثمة سقطة إبليس الشهيرة سجلتها أسفار «العهد القديم»، وملحمة الشاعر جون مليتون «الفردوس المفقود»، والقرآن الكريم في الآية: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) . ويؤمن المليارات من أتباع الديانات السماوية بأن سقطة إبليس هي أصل كل الشرور لأنها أسقطت آدم وحواء من الجنة وصنعت الصراع بين الخير والشر. وفي التاريخ، ثمة سقطات نابليون، وهتلر، والإمبراطورية الرومانية، والكثير من أسقطهم الجشع وازدراء الآخرين. 
 
اليوم، ثمة مرشحان مثاليان للسقوط التراجيدي، يعميهما غرورهما وعيوبهما الأخلاقية عن رؤية ما يربيانه في داخلهما من بذور دمارهما الخاص: الولايات المتحدة، والكيان الصهيوني. ويحمل مسار هذين الكيانين جميع سمات المأساة الكلاسيكية –الطموح الجارف، والعمى القاتل عن رؤية العيوب، واللحظة الحتمية للمحاسبة التي تزداد وضوحًا واقترابا مع كل تطور جديد.
عيب أميركا القاتل هو عطشها الذي لا يُروى للهيمنة. وقد بدا هذا الطموح لفترة من الوقت غير مقيد، لكنه أصبح يترنح بفعل تناقضاته الذاتية. مثل كل الإمبراطوريات البائدة، أفرطت الإمبراطورية الأميركية في التوسع في مسعاها فرض صورتها على العالم. وقد استخدمت القوة العسكرية، والضغط الاقتصادي، والتأثير الأيديولوجي للحفاظ على تفوقها، واختارت الإكراه على القوة الناعمة معظم الوقت. وكانت الحروب الدموية في فيتنام والعراق وأفغانستان تجليات قاتمة لعقيدة الغطرسة الأميركية والاعتقاد بامتلاك التاريخ.
في العقود الأخيرة، شرعت الأوهام التي كانت تحيط بالقوة الأميركية في التبدد. لم يكن الانسحاب الكارثي من أفغانستان في العام 2021 مجرد هزيمة عسكرية فقط؛ كان كشفا لحدود القوة الأميركية وتذكيرًا قاسيًا بأنه لا يمكن حتى لأعظم القوى أن تتحدى مسار التاريخ إلى الأبد. و»السلام الأميركي» الذي رُوِّج له لعقود يظهر الآن على حقيقته كفاصل زمني عابر، بينما يتشكل باطراد واقع متعدد الأقطاب لم تعد الهيمنة الأميركية فيه مضمونة، أو حتى مرغوبة.
كما يعكس الكيان الصهيوني الذي أصبح مرتبطا وجوديا بمثاله الأميركي أيضا هذا المسار التراجيدي للحماقة المتغطرسة، ويمعن في تقمص العقلية الاستعمارية التي أفضت تاريخيا إلى الانهيار. منذ إنشائه، أقام الكيان وجوده على مبدأ الاغتصاب والغزو الدائم –للأرض، والتاريخ، والسردية. وكما يلاحظ كثيرون، لا يكمن ضعف الكيان الأهم في التهديدات الخارجية بقدر ما هو في تصلبه الإيديولوجي وفشله في تخيل مستقبل لا يحكمه بالقوة. وكما يبدو من حالة القلق التي يعيشها الكيان، فإن التطرف العسكري وسياسات الفصل العنصري والتوسع المستمر لا تؤمن له البقاء بقدر ما تقربه من الانهيار.
على الرغم من فظائعها التي لا توصف، أضاءت الحرب المستمرة غزة هذا المسار التراجيدي فحسب. ليست المذابح العشوائية للمدنيين، وحصار المدن، والتدمير المنهجي للحياة الفلسطينية علامات قوة بقدر ما هي تجليات يأس. والأعمال الوحشية ربما تكون الأنفاس الأخيرة المشحونة بالعنف التي ميزت تاريخيًا الأنظمة الاستعمارية المنقرضة. وهذا نمط تاريخي موثق: عندما تدرك المشاريع الاستعمارية الاستيطانية أن وجودها ليس مضمونًا، تستعين بالعنف المفرط في محاولة يائسة لقمع الحتمية التاريخية. وقد دفعت هذه الرؤية المؤرخ «الإسرائيلي» المعروف، أيلان بابيه، إلى التحدث بثقة عن سقوط الكيان: «أننا في مرحلة بداية نهاية المشروع الصهيوني، ويجب أن نكون جزءًا من الجهود لتقصير هذه الفترة». وبابيه ليس وحيدًا في رؤيته.
في الأشهر الأخيرة، تآكلت المكانة الدولية للكيان كما لم تفعل من قبل. الحصانة التي تمتع بها لعقود أصبحت موضع تساؤل، وجرائمه تقارن بأكبر فظائع التاريخ وتناقشها المحام الدولية. وحركات المقاطعة والعقوبات ضده تزداد وتصبح أكثر جاذبية. حتى أن الشكوك بدأت تتسلل إلى الخطاب الدبلوماسي لأقرب حلفائه. وتواجه الولايات المتحدة، الراعية المطلقة لهذه الوحشية، إدانة مماثلة وتفقد آخر ما تبقى من ادعاء للأخلاقية واحترام القانون الإنساني.
الآن، يخاطب الرئيس الأميركي كل الآخرين، ومنهم أوثق الحلفاء، بمنطق «أنا ربكم الأعلى». وربما تكون هذه بداية فض التحالف الغربي الذي أرهق العالم، وعزل الولايات المتحدة وتجنب التعاون معها، كما يظهر في بحث أوروبا عن نفسها وتأكيد استقلالها، وتركيز كندا على قوميتها، وتطلع الكثير من العالم النامي إلى القوى الكبرى البديلة. وينبغي للذهاب الواضح إلى التعددية القطبية أن يُنزل أميركا عن المسرح الذي غنّت عليه طويلًا وحدها.
ربما يكون الجانب الأكثر تراجيدية في هذه الانهيارات المحتملة هو أنه كان بإمكان الكيانين اختيار طريق آخر. كان بإمكان أميركا أن تكون قوة بناءة في التعاون العالمي بدلًا من الإصرار على الهيمنة. وكان بوسع اليهود الهاربين من اضطهاد الغرب إلى فلسطين اختيار التعايش بدلًا من التطهير العرقي والإبادة والفصل العنصري. لكن البطل التراجيدي عندما يصل لحظة الإدراك، ويعرف عيبه القاتل، يكون الأوان غالبًا قد فات وانتهى الأمر.
يوصف البطل التراجيدي بأنه شخصية بصفات نبيلة، لكنها تنطوي على عيب قاتل. لكننا نتعامل مع كيانين لا ينطويان على أي قدر من النبل أو الأخلاق المعروفة التي يمكن أن تجلب لهما التعاطف الذي يحظى به البطل التراجيدي. إنهما العرض المثالي للغطرسة، والجشع، والتعالي المتأله، وكل الشر المطلق الذي يعنيه الاستعمار الاستيطاني الإبادي –كل ما ينبغي للسقوط التراجيدي الحتمي.