العربي الجديد
د.جواد العناني
هل يمكن إسقاط مشروع دونالد ترامب الخاص بمستقبل غزة؟ الجواب مقدماً هو بالإيجاب نعم وألف نعم.
ولكن ما هو هذا المشروع الذي يتحدث عنه؟ إنه باختصار يود إدخال الجيش الأميركي إلى غزة والإشراف على نقل معظم من يستطيع من سكانها إلى خارج القطاع كله، وبعد ذلك يقوم بإدخال آلياته لتفجير الألغام والقنابل والصواريخ التي سقطت عليها وتحييدها أو نقلها إلى مكان آمن حتى لا تقع بأيدي مجاهدي المقاومة. ومن ثم ينتقل إلى جرف الأنقاض التي تراكمت تلالاً وجبالاً على أديم غزة ويتخلص منها أو يبيعها سكراب (Scrap)، ومن بعد ذلك يحضر الآليات الثقيلة ليقوم ببناء عشرات الأبراج السكنية والمساكن مسبقة الصنع، ويخصص منطقة سياحية على البحر المتوسط ويزرعها بالأشجار ويقيم فيها برجاً أو اثنين باسمه Trump Towers، ويفتح فيها كازينو أو عشرة كازينوهات قمار لأمثال شيلدون إديلسون الذي توفي وورثته زوجته التي تبرعت لترامب بأكثر من مئة مليون دولار لتمويل حملته الانتخابية.
أما بالنسبة للسكان الذين سيسمح بعودتهم بعد ذلك إلى غزة فهم، حسب قول الرئيس الأميركي، أبناء المنطقة، وهي كلمة غامضة لا تعني أهل غزة تحديداً، ولكن فقط أولئك الذين يحتاجهم للعمل في المطاعم والأندية وصالات القمار والفنادق. أما المالكون فقد يكونون من سكان إسرائيل أو من كبار اليهود الرأسماليين الذين يستثمرون في هذه القطاعات. وهكذا تعيش المنطقة في سلام وأمان ووضع اقتصادي ممتاز.
بكل هذه السذاجة التي يمكن تلمسها من خلال السرد أعلاه يعتقد الرئيس ترامب أن المشكلة سوف تحل، وأن الصراع الفلسطيني (العربي) الإسرائيلي سوف ينتهي، ويعيش كل طرف في سلام وأمان ورضا وسرور. وكأنه يعزف على لحن الموسيقار والملحن المصري رياض السنباطي: "الحب كده وصال ودلال ورضا وخصام، أهو من ده و ده، الحب كده مش عايزة كلام، الحب كده".
لقد صدق من قال إن مشروع غزة الذي كتب على ورق قرأ منه الرئيس ترامب في مؤتمره الصحافي قد فاجأ ضيفه بنيامين نتنياهو الذي لا يقل عنه في المبادرات العجيبة الغريبة. والعجيب أن ترامب بدا واثقاً من أنه يقدم تحفة من تحف أميركا العظمى وسيفوز من خلالها بجائزة نوبل للسلام، وهو لن يرضى أن يفوز ثيدور روزفلت وودرو ويلسون وجيمي كارتر (بعد انتهاء رئاسته) وباراك أوباما، بينما لا يفور هو (ترامب) بها. ولا أعتقد أيضاً أن نتنياهو الذي فاز قبله مناحيم بيغن وإسحق رابين وشيمون بيريز مهتم بها إلى هذه الدرجة، لقد كان يريد أن يصل إلى اتفاق تطبيع مع السعودية، وأن يأخذ مباركة من الرئيس الأميركي بضم أراض من الضفة الغربية إلى إسرائيل. ولكن الرئيس الأميركي له أيضاً أهدافه في المنطقة، ولا يريد أن يرضي نتنياهو إلى الحد الذي يضيع عليه تلك الفرص.
خطة إعمار غزة تواجه ألغام التمويل وتعطيل المعابر
ومن هنا، قطعت المملكة العربية السعودية قول كل متذاكٍ أو فصيح بأن أعلنت بلغة واضحة لا لبس فيها ولا غموض أن مشروع تطبيع العلاقات مع إسرائيل لن يأتي إلا في سياق قبول إسرائيل القاطع المانع والتزامها بإنشاء دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية. وأعتقد أن الموقفين السعودي والقطري هما اللذان سيكسبان الموقف الخليجي برمته في مؤتمر القمة العربي الذي دُعِي إلى عقده يوم السابع والعشرين من هذا الشهر (فبراير/ شباط)، أو قبل يومين أو ثلاثة من بداية شهر رمضان المبارك، وبعدما يكون كل من الملك الأردني عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد تقابلا مع الرئيس الأميركي في واشنطن يومي 11 و18 فبراير من هذا الشهر تباعاً. علما أن هناك تسريبات مصرية بأن السيسي ألغى زيارته المقررة لواشنطن حتى إشعار آخر.
لقد التقى الملك عبد الله الثاني بالرئيس الأميركي بالفعل، يوم الثلاثاء الماضي، وأبلغه بموقفه وموقف الأردن كله بأنه ضد التهجير، وضد التهجير إلى الأردن تحديداً، وضد مفهوم الوطن البديل، وهذه القضايا الثلاث هي قضايا وجودية بالنسبة للأردن نظاماً وبلداً ومآلاً، ولا يمكن للأردن أن يرضى بذلك أو أن يقبل بأن ينحني للضغوط المالية والاقتصادية، أو بأن يتلقى التهديد العسكري بالخوف والتراجع.
قدرة الرئيس ترامب للضغط على الأردن لن تكون ميسرة، بل سيعارضها عدد كبير من أصدقاء الأردن في الكونغرس، وعدد لا يستهان به من يهود أميركا الذين يعرفون أهمية الأردن لمستقبل العلاقات
والرئيس الأميركي ينظر إلى الأردن، كما يقول تقرير صدر في مجلة MEI في عددها الأخير، باعتبارها دولة لا تدخل كثيراً في حساباته لأنها بلد ضعيف الموارد. هذا صحيح من حيث المفهوم الاستاتيكي الذي ينظر إلى الأمور من زاوية الأرصدة، ولكن للأردن دوراً ديناميكياً هاماً في موقعة الجيوستراتيجي، وفي أهميته لأمن المشرق العربي والخليجي، وكونه حلقة وصل مهمة، وليس مجرد حلقة تفصل بين الخليج وسورية، وبين الخليج وإسرائيل على الأقل حتى تحويل مُلكية جزيرة تيران وصنافير من مصر إلى السعودية. لا سلام يتم على أساس المبادرة العربية التي أقرت في قمة 2002 بدون الأردن، لأنها ستكون حلقة الوصل الأساسية بين فلسطين التاريخية (فلسطين وإسرائيل)، وبقية العالم العربي.
ونظراً لذلك، فإن قدرة الرئيس ترامب للضغط على الأردن لن تكون ميسرة، بل سيعارضها عدد كبير من أصدقاء الأردن في الكونغرس، وعدد لا يستهان به من يهود أميركا الذين يعرفون أهمية الأردن لمستقبل العلاقات، ولأمن إسرائيل في تحقيق السلام، ويعلمون أيضاً أن الأردن يواجه تحديات اقتصادية كبيرة بفعل الأزمات والحروب العربية الداخلية منذ بداية الربيع العربي حتى الآن.
إعادة إعمار غزة وخطط ترامب الشريرة
والأمر المهم الأخير، من هو الذي سيشكك في حق الأردن القانوني والأخلاقي في الدفاع عن نفسه لحماية حدوده وأراضيه من أن تتحول إلى مقبرة تدفن فيها أحلام أهل فلسطين بدولتهم المستقلة وحقوقهم التاريخية في أراضيهم - والتي كان الأردن أول المعترفين بها وأكثر من ضحى لها؟ هذا عدا عن أن الأردن لم يخرق في تاريخه الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعها، ولم يبادر أحداً بحرب، ولا قام بأي عمل فيه إنکار لحقوق الإثنيات الدينية والعرقية، ونادى بالتعايش والإخاء والعلاقات القائمة على الاحترام المتبادل، وساهم في حفظ السلام، وقام بالتصدي للإرهاب محلياً وإقليمياً ودولياً، وكان باستمرار عنصراً مساهماً في الحفاظ على الأنظمة والأراضي والشعوب العربية، والأفريقية، وكل شعوب الأرض، فبأي حق ستسمح أميركا لنفسها بالتدخل العسكري ضد الأردن، أو لفرض قبول النزوح العربي أو الفلسطيني لأراضيه.
إن أي اعتداء على الأردن هو بحد ذاته جريمة حرب غير مبررة، وحق الأردن في الدفاع عن نفسه بكل الوسائل هو حق مشروع يتناسق مع القانون الدولي. لا بد أن سكوت الأردن عن تهجير الشعب الفلسطيني إلى أراضيه هو مشاركة في ارتكاب جريمة وقبول المهجرين على أراضي الأردن هو فعل مباشر لهذه المخالفة. وهذان الأمران لا يقبل بهما الأردن، فكيف إذا كانت تلك الهجرة القسرية تنطوي على تهديد له ولكيانه ونظامه ووجوده كله؟
القوى الأميركية التي تحرص على أن ترى الرئيس ترامب يفشل في تحقيق أهدافه، ربما تجد في الموقف العربي الرافض لمخططات تهجير الفلسطينيين أو تصفية القضية برمتها على حساب الدول العربية الأخرى ما يساعدها على ذلك
النقطة المهمة التي تستحق التأمل، ماذا لو أن العالم ومعه الأقطار العربية والإسلامية والدول المحايدة المحبة للسلام تقاطرت بعضها مع بعض على مشروع تدريجي لقيام دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية وعاصمتها القدس أو في القدس وتكون قابلة للحياة، فما هي الدولة التي ستكون أكثر تسهيلاً ولها مصلحة في التعاون مع هذه الدولة الفتية؟ المرجح أن الأردن ستكون كذلك لأسباب تاريخية وثقافية وديمغرافية وجغرافية وسياسية واقتصادية واجتماعية وأنثروبولوجية ومواردية. وفكرة تغييب الفرص لإقامة تلك الدولة الفلسطينية هي العبء الأكبر الذي سيقع على كاهل الأردن.
هكذا فإن الأردن في حالتي السلم والحرب أو حتى في الحالة الهلامية الحالية يبقى هو الرقم الأهم في تثبيت الحق الفلسطيني وتعزيزه. إن القوى الأميركية التي تحرص على أن ترى الرئيس ترامب يفشل في تحقيق أهدافه، ربما تجد في الموقف العربي الرافض لمخططات تهجير الفلسطينيين أو تصفية القضية برمتها على حساب الدول العربية الأخرى ما يساعدها على ذلك. ولكن يجب أن يفهم صناع القرار في الولايات المتحدة، الجمهوريون منهم والديمقراطيون المسيحيون أم اليهود، أننا لا نبحث عن الاصطفاف أو الانحياز لهذا الفريق في داخل أميركا على حساب الآخر، بل إننا نبحث عما نرى فيه أن مصلحة أميركا في الوصول إلى حل دائم وعادل للقضية الفلسطينية، وأن من يدعم ذلك الحل من داخل الولايات المتحدة سيرى أن المواطنين العرب وعددهم بات يداني 500 مليون نسمة ممتنون له وشاكرون.
ولا يسعني هنا إلا أن أشير إلى مؤتمر "لنجعل أوروبا قوية ثانية"، والذي ستعقده الأحزاب المحافظة في أوروبا، ويبدو في ظاهره أنه مؤتمر لبحث مستقبل المشروع الأوروبي M.E.G.A : Make Europe Great Again مقابل المشروع الأميركي M.A.G.A : Make America Great Again، ونلاحظ هنا أن الفرق بين M.E.G.A. وحرف E في حالة أوروبا ويرمز إلى كلمة Europe وحرف الـA في ماغا ويرمز إلى أميركا، وكلاهما يدعي أنه يحتل كامل القارة التي يقع فيها، وهو أمر غير صحيح. فهل نحن أمام حروب القارات الجديد؟ وهل سيشار إلى الهند والصين بأنهما آسيا؟ نحن أمام ظواهر في العالم تثير سؤالاً مهماً حول الهوية العربية (الشرق الأوسط أو العالم العربي). أما ماذا، هل نسمي أنفسنا غرب آسيا وشمال أفريقيا؟ فنصبح تسمية بين قارتين؟
لا شك أن التفاهم العربي حول الهوية العربية بحدودها الدنيا جغرافياً ومصلحياً صار يتطلب منا أن نكون وحدة من وحدات العالم المحايدة، والتي تبقي النمو والاستقرار هدفاً ولا تريد أن تكون شريكاً في حروب القارات القادمة.