منذ المعرة إلى غزة حيث دفن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان*د. عبدالله يوسف الزعبي
الغد
ذات مساء مظلم في تاريخ البشر، توارت فيه شمس الحق وخار ضياء القمر في عتمة الظلم، وتحديدا يوم 12 كانون الأول (ديسمبر) 1098، حين تضرجت معرة النعمان بالدم وأضحت حفلة شواء للطفولة، مارس فيها الصليبيون اشنع ألوان الرعب والقسوة وأقصى أصناف البشاعة؛ فافترسوا الأطفال وأكلوا لحوم الناس ثم أحتفوا بسلخ الجلد على كأس من الدم السافح. عشرون ألفا من سكان المدينة، مسلمون ومسيحيون، قضوا في تلك الليلة حسب المؤرخين الفرنجة أنفسهم ومنهم ريموند أوف أكويلرز وبيتر توديبودي، إثنان من المشاركين في الحصار وشهود العيان. تلك الهمجية امتدت على مدى مائتين عاما وعقد من الزمان، من انطاكيا العربية إلى القدس وعسقلان، وحملة تلو حملة حتى تاسعة نابليون والعاشرة إذ تبدل الصليب بالشمعدان.
وذات نهار قارس البرودة من أيام أوسلو النرويجية، وتحديدا في 11 كانون الثاني 1968، وفي قاعة معهد نوبل وأمام لجنتها العريقة، ألقى الحقوقي الفرنسي رينيه كاسان محاضرة بمناسبة منحه جائزة نوبل للسلام لجهوده في اعداد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنته الأمم المتحدة قبل ذلك بعشرين عاماً، وبصفته العقل المدبر والقوة الدافعة وراءه، إذ أكد في المحاضرة على أنه بالنسبة لأولئك الناس الذين أجبروا على القتال لوقف آلة تدمير الحرية والكرامة الإنسانية، كانت الحرب العالمية الثانية بمثابة «حملة صليبية حقيقية من أجل حقوق الإنسان». ورغم أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي مادته الأولى تحديداً، يؤكد على أن «جميع البشر يولدون أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق، إذ وهبوا العقل والضمير وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء»، إلا أن كاسان نفسه ناقض جوهر الإعلان في محاضرته تلك حين وقع في خطيئة استحضار تاريخ الدم والخراب الذي جلبته الحروب الصليبية على بلاد الشام، وبالذات فلسطين، مثلما فعلت الحرب العالمية الثانية بأوروبا. ومثلما أغفل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نكبة فلسطين عام 1948 التي حدثت قبل تبنيه بأقل من خمسة أشهر، فقد تجاهل كاسان صاحب السلام النكسة الأخرى التي حلت بفلسطين عام 1967 وقبل محاضرته بعام ونصف.
ولعل ذاك الفرق البسيط والتفاوت الضئيل في المصطلح أو التعبير يعبر عن البون الشاسع والتباعد السحيق ما بين الحضارتين الغربية والعربية الإسلامية حين يتعلق الأمر بجوهرهما واسسهما العميقين، ذاك أن الحروب الصليبية تعتبر في الغرب حملة من أجل حقوق الإنسان في حين أنها عند العرب والمسلمين اعتداء وإبادة وإحلال. كما يضفي ذاك الاستحضار على الإعلان طابعاً غربيا خالصا متجاهلا طبيعته الإنسانية أينما كانت وحلت، ما يعكس الخلل العميق في الفكر الغربي عندما يتعلق الأمر بالآخر، مهما كان لون أو عرق أو معتقد ذلك الآخر.
لقد اعتاد الشرق عقدة الأبيض، صاحب الرسالة، إذ يطل عليه بين الفينة وحين اسكندر أو قيصر، أرناط أو شيرتشل، بوش أو جولدا مئير، كلهم سواسية، يلوحون بالإعلان وحقوق الإنسان، بالديمقراطية وحقوق المرأة والطفل والحيوان، بالعدالة والمساواة والقانون والحرية وكافة تلك المفردات المسكينة التي سئمت النفاق والخديعة وحضارة ما نطقت يوماً سوى لغة الدم.
اليوم، وفي لحظات فارقة من تاريخ البشرية، يتهاوى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والسبعين معاهدة التي انبثقت عنه، ومعه الأمم المتحدة وكافة مؤسساتها وأذرعها، مثلما تتوارى جميع اللغات الخمسمائة التي ترجم إليها وراء خجلها وخزيها؛ إذ تقف عاجزة عن نصرة شعب يباد بالبث المباشر، وبجميع ألسُن العار والصَغار منذ عام ونيف.
اليوم تتفتح أعين الإنسان على مصراعيها؛ إذ ترى الإنسان ذاته يتضرج أمام وحشية لطخت ضمير البشر، إنسان قد لا يستطيع رؤية الحقيقة أو قد يتعامى عنها، لكنه يمكن أن يكونها هو نفسه ذات يوم، خصوصاً عندما يكون الغرب الذي يشهد سقوط حضارته على أسوار غزة وتخر هدا، ومعها جذورها التي تجسد فلسفة اليونان وقانون الرومان ووصايا المسيح بالتسامح والغفران ومحبة الإنسان لأخيه الإنسان.